«حياة أقصى» فتاة عادية عمرها 20 عاماً، من أصول باكستانية، ولدت في إسكتلندا وكان أبوها رجل أعمال هاجر إلى العاصمة غلاسكو في ثمانينيات القرن العشرين..

تعرف على زوجته سريعاً وأنجب منها «حياة»، وأدخلها مدارس خاصة، حتى التحقت بالجامعة، وفجأة تركت الابنة دراستها وخلعت ملابسها الحديثة وغطت جسدها كاملاً بثياب سوداء، وانعزلت في حجرتها بضعة أيام قبل أن تخرج على أبويها بحقيبة صغيرة في يدها قائلة: سأسافر بعد ساعات إلى سوريا.

سألها الأب وهو لا يصدق ما سمع: ماذا؟ أجابت بهدوء: سأقاتل هناك لرفع راية الإسلام. صعق الأب ولم يقدر على النطق، صرخت الأم: أنت عضو في تنظيم داعش؟ ردت «حياة» ببرود: تنظيم الدولة الإسلامية يا أمي.. ثم خرجت ولا يعرف عنها أهلها شيئا منذ عام تقريبا.

قد يتصور البعض أن هذا مشهد من فيلم خيالي، لكنه الواقع الأغرب من الخيال، ونشرته جريدة «ديلي ميل» البريطانية. وبسبب «حياة» وأمثالها أعلن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عن إجراءات جديدة تتيح للشرطة البريطانية مصادرة جوازات سفر من يشتبه في أنهم من المقاتلين «الإسلاميين»، ووضعهم تحت المراقبة.

والمدهش أن حياة لم تكتف بهجر وطنها، وإنما راحت تحرض ضده في تغريدات متواصلة، وتدعو إخوانها من المسلمين في إسكتلندا وبريطانيا لأن يُحدثوا «مجازر» في الشوارع، وأن يصنعوا تفجيرات كالتي حدثت في بوسطن قبل عام تقريبا، وعمليات قتل كالتي وقعت في قاعدة «فورد هود» العسكرية في ولاية تكساس الأميركية، حيث أطلق جندي أميركي النار عشوائيا فقتل من زملائه 13 ضباطا وجنديا.

كان يمكن أن نمر على قصة «حياة أقصى» مرور الكرام، نندهش قليلاً، نضرب كفاً بكف من تصاريف القدر مع النفس البشرية، لكن «حياة» ليست حالة فردية، وإنما هي ظاهرة تتكاثر منذ فترة في العالم الإسلامي.

وبالطبع لا نشك في نيات هؤلاء الأشخاص الذين يبدون في غاية اليقين بأنهم يهجرون دار الكفر إلى دار الإيمان.. لكن ماذا يحدث لهم ويجعلهم ينقلبون هذا المنقلب؟!

السؤال صعب والإجابة أصعب.. لكن واحدا من هؤلاء كتب تجربته الجهادية في أفغانستان، تحت عنوان «ذكريات عربي أفغاني، أبو جعفر المصري القندهاري»، وقد نلاحظ الاضطراب في اسمه كما كتبه هو «مصري وقندهاري معا»، ولا نتوقف عنده، فالمسألة كلها مضطربة فكريا ونفسيا ودينيا، لكن نتوقف عند مفاتيح تسربت منه، قد نفهم منها سر هذا التحول.

مثل أن «قيام دولة إسلامية في أفغانستان هو بداية نهاية عصر الضعف والاستذلال الذي خيم على الأمة قرونا طويلة، ولأن قيام دولة إسلامية في هذا العصر سوف يُواجه من المجتمع الدولي بمقاومة صارمة، ويصبح عندئذ على كل مسلم اتخاذ موقف حاسم إما مع الإسلام أو مع الجاهلية».

إلى أين تقودنا هذه العبارة المفتاح؟ أن الأمة الإسلامية في حالة ضعف واستذلال، ولا خروج منها إلا بتأسيس دولة إسلامية في أفغانستان، أبعد نقطة في شرق العالم الإسلامي، ولن يقبل المجتمع الدولي هذا، وسيكون المسلمون بين اختيارين: الإسلام أو الجاهلية.

ويبدو أن «حياة أقصى» لم تقبل العيش في «الجاهلية العصرية» من جامعات وتعليم ومعرفة، وهاجرت إلى تنظيم داعش، تجاهد زوجةً لمقاتل من رجاله.

لم يسأل أبو جعفر المصري ولا حياة أقصى نفسيهما: هل الأفيد للمسلمين والإسلام بناء مدرسة أو إنشاء مصنع أو إقامة مستشفى أو تأسيس معمل أبحاث.. الخ، أم هجر الحياة إلى الكهوف والصحراء والتدريب على مدفع أو منصة صواريخ وسفك الدماء؟!

والمدهش أن أبو جعفر نفسه كان طبيبا قبل أن يكون مجاهدا أفغانيا، وحين ركب الطائرة متجها إلى باكستان ومنها إلى أفغانستان، شعر بمصريته وسأل: هل سيرى مصر مرة أخرى؟ وفسر ذلك بقوله: «نعم في الاسلام الولاء للدين وليس للطين»!

كما لو أن الدين والوطن على طرفي نقيض، هو ما يفسر لنا: لماذا يقاتل هؤلاء «المتوهمون المجاهدون» أوطانهم في سوريا وليبيا والعراق ومصر واليمن والسودان والصومال ونيجيريا؟ فالأوطان في معتقداتهم، مجرد قطعة أرض يسهل تركها وهجرها إلى أي تنظيم ديني.

إذن؛ أين المعضلة؟ وأين الخلل؟ يكمن الخلل في العقل، وحين يتعطل العقل أو يضيق عن التفكير العلمي المنظم، يسهل حشوه بأي أفكار دينية. ولن ينصلح حال المسلمين إلا بتعليم عصري يعود بهم إلى صحيح الدين الذى بدأت رسالته بكلمة سر هي «اقرأ»، بينما ثقافة أغلب المسلمين الآن «سماعية» دون التفكير.