تتواجد في جميع بلدان العالم قنوات تلفزيونية فضائية تختص بشؤون الدين، وأحياناً تقتصر برامجها كلها على هذا النشاط الذي تمارسه على مدار الساعة، وهذا يؤدي بالضرورة إلى تسطيح هذه البرامج وفقدانها لأهميتها، واضطرارها للحديث عن أي شيء، وأحياناً اختراع هذا الشيء لملء وقت البرنامج.
واستضافة من يعرف ومن لا يعرف، وإفساح المجال له ليقول ما يشاء و«يفتي» بما يشاء، واضطراره أحياناً للجوء إلى كلام مبعثر وقصص خيالية، وعدم احترام عقل المتلقي أو الانتباه لما إذا كان حديثه يسيء للدين ويحوله.
وتسكت القنوات الفضائية عن مثل هذه السلبيات المحتملة، وتحرص على الأمور الثانوية التي يمكن الخوض فيها بحكايا لا تختلف كثيراً عن حكايا «الدواوين» أو «المقاهي»، ما يؤدي لتزييف الوعي وتشويه الثقافة، بل وتشويه الدين.
كان لدى البلدان العربية قبل عقد، ما يقارب خمسين قناة فضائية تهتم بالشؤون الدينية، وقد وصل هذا العدد الآن إلى 150 قناة، أي تضاعف العدد ثلاث مرات خلال بضع سنوات.
ولعل هذه الزيادة غير العادية، تعود لعدة أسباب، منها تفجر الاتصالات والتقنية وسهولة تأسيس القنوات وتشغيلها وقلة تكاليفها نسبياً، ولحماس بعض الأثرياء للدين واستثارة عواطفهم الدينية، وبعضها يعود لزيادة عدد تنظيمات الإسلام السياسي في البلدان العربية، أحزاباً وتيارات، ولجوئها لتأسيس قنوات فضائية تعبر عن آرائها وتقوم مقام الدعاة. وفي الخلاصة أصبحت هذه القنوات شريكاً في تأسيس وعي هش، وثقافة خاصة تراكمت مع الزمن تحت خيمة الدين.
من المفروض أن تكرس القنوات الفضائية المهتمة بالشؤون الدينية، برامجها لشرح صحيح الدين وأصوله وأساسياته وتاريخ انتشاره، وتطور تطبيق أحكامه مع مرور الزمن وتغير الظروف والأحوال، وتهتم بتفسير الآيات المحكمات وأسباب النزول، وبكيفية استيعاب تعاليم الدين لمستجدات الحياة وتطور العلوم والمجتمعات، وللحداثة وما بعد الحداثة وغيرها، وتكون بذلك، وبما يشبهه، قد أدت دورها العظيم في خدمة الدين وتعاليمه.
لكن هذه القنوات، وبسبب عجزها وجهل القائمين عليها، توجهت إلى القضايا الثانوية سهلة التداول والشرح، ومع الزمن سفّت في شرحها وتفسيرها، وكثيراً ما يقودها هذا إلى «الهذر» الذي لا تحمد عقباه، خصوصاً وأنها تأخذ أقوال بعض الفقهاء دون تدقيق أو تمحيص، لمعرفة مدى مطابقتها ليس لمصالح الناس وواقعهم فقط، بل لصحيح الإسلام نفسه.
لقد أدى الجهل والعجز وضحالة البرامج والاهتمام بالتفاصيل وتفاصيل التفاصيل، على حساب الجوهري والأصول والرئيسي، لهروب هذه القنوات إلى أهداف وسبل أخرى، أهمها رفض الآخر وإقصاؤه والابتعاد عن فهمه والتفاهم معه.
وتجاهل معظم قيم الإسلام العظيمة، كالتسامح والحرية والعدالة والمساواة والالتزام بالواجبات وبحقوق الآخرين، سواء كان هؤلاء من أتباع دين آخر أو مذهب إسلامي آخر، أو حتى من أتباع اجتهاد آخر في المذهب الواحد، ورميهم بالزندقة والكفر والخروج على الإسلام.
وإباحة دمائهم وأموالهم، والإصرار على إسقاط شروط الماضي وظروفه على الحاضر، وكأن الزمن توقف منذ العصر الأول للإسلام، وتستوي في ذلك القنوات الناطقة باسم مختلف الطوائف ومختلف الأديان أيضاً، وإلباس هذه المفاهيم بأحاديث نبوية، بل إعطاء الأحاديث (صحيحها وضعيفها) قوة تساوي ما جاء في الذكر الحكيم، وأحياناً تهميش الآيات القرآنية لحساب أحاديث بعينها، دون أن يجمع الفقهاء على صحتها.
وفي الخلاصة، بدلاً من أن تهتم القنوات الفضائية الدينية بتخليص صحيح الإسلام مما علق به من أقوال وحكايا ومواقف فقهية وفتاوى ضعيفة أو مبنية على مرجعيات ضعيفة، أخذت أكداس الفقه كما هي، وبدأت تغرف منها (غثها وثمينها) دون تبصر، وكأنه لا يكفي الإسلام ما واجهه من تحريف وتشويه من أهله ومن غيرهم، حتى أخذت هذه القنوات تكمل المهمة بفخر وبلا مسؤولية.
وبسبب بؤسها وقصورها عن أداء مهمتها وعدم فهمها لصحيح الدين ولخطورة تشكيل وعي مزيف هش، وبسبب إصرار تيارات الإسلام السياسي على كسب الأنصار بواسطتها، تحول بعضها إلى قنوات دعاية سياسية، بدلاً من أن تكون قنوات دعوة وتعميق للمفاهيم الدينية، وإحياء لأصول الدين.. وهكذا وضعت الدين تحت أكداس الصغائر والتفاصيل والفقه العامي والحكايا و(الحواديت).