ملاحظة جديرة بالتأمل حقاً، ربما تحدث لأول مرة، أن ثلاث شخصيات إخوانية في ثلاث دول عربية، وجهت انتقادات إلى الجماعة في فترة زمنية متقاربة، وطالبتها بإعادة التفكير في التنظيم والأساليب والمسارات الحالية، بل إن جزءاً من هذه المطالبات وصل إلى حد التخلي كلياً عن «مواقفها العامة» المتمسكة بها منذ عزلها من السلطة في مصر قبل أكثر من عام..

الأول هو الدكتور عبد الفتاح مورو، نائب رئيس حركة النهضة التونسية، ودعا الجماعة إلى نظرة نقدية في أوضاعها الحالية وأن تراجع مواقفها السياسية، خاصة وقد ارتكبت أخطاء.

ولم يفصل الدكتور مورو هذه الأخطاء رحمة بالجماعة في أحوالها الصعبة في مصر، عملا بمثل مصري شهير «الضرب في الميت حرام».

والثاني هو الدكتور شرف محمود القضاة، رئيس مجلس علماء جماعة الإخوان في الأردن، وإن اقتصر حديثه على المملكة فقط، وقال إن وضع الجماعة في تراجع على كل الأصعدة منذ سنوات طويلة، فالتنظيم يعاني من اختلالات جسيمة، وصفها بـ«المتعمدة والمنظمة» من قبل القيادة الحالية، وأن أبرز الأخطاء التي وقعت فيها الجماعة في الأردن هو إنشاء «تنظيم سري» داخلها، بحيث أصبحت الجماعة في الحقيقة جماعتين أو أكثر، وهو ما أسفر عن «فساد إداري ومالي».

والثالث هو الداعية الإخواني المصري راغب السرجاني، وكتب مقالاً على مدونته نصح فيه جماعته بوقف التظاهرات في الشوارع المصرية وضرورة التسليم بالأمر الواقع، داعياً إياهم إلى طاعة الحاكم، وقال لهم صراحة: اخرجوا من معسكركم المغلق وراجعوا أنفسكم والنصائح المسداة لكم، لتعلموا صحة طريقكم من عدمه، وإياكم والتكبر عن تعديل المسار إن تبين الخطأ فيه.

هذه تقريباً خلاصة ما قالته الشخصيات الثلاث، وهي ذات باع ومكانة في الجماعة، والسؤال: هل يمكن فعلا أن تستمع الجماعة إلى الأصوات المطالبة بتصحيح مسارها، وأن تتصالح هي مع مجتمعاتها وتذعن لقوانينها؟ السؤال هين والإجابة أيضاً، وهي: صعب جداً أن تفعل الجماعة ذلك، وقد يكون من رابع المستحيلات أن تراجع نفسها، والإجابة بـ«لا» ليست حكماً انطباعياً أو متسرعاً أو متمنياً، وإنما هي قراءة فاحصة في تاريخ الجماعة ومواقفها منذ نشأتها عام 1928.

وإذا راجعنا ردود أفعال الجماعة على ما قالته الشخصيات الثلاث، سنجده غليظاً وعنيفاً، ما عدا الرد على الدكتور مورو، فقد صبغ نقده للجماعة بنعومة وهدوء بالغين، وانتقى ألفاظه بدقة حتى لا تكون قاسية، أما الدكتور شرف محمود والداعية راغب السرجاني، فقد كانت عباراتهما قاطعة حاسمة محملة باتهامات مثل طلقات رصاص.

وقد نستبعد من كلام الدكتور شرف عبارة «الفساد المالي والإداري»، لأنها لا تثبت إلا بحكم قضائي، لكننا نتوقف أمام عبارة «تنظيم سري»، وهي عبارة مفتاح لباب «أزمة الجماعة» الحقيقية طول تاريخها كله، والسؤال: لماذا تنظيم سري في جماعة سمحت السلطات الأردنية بعملها العلني؟

الإجابة تلج بنا إلى «التنظيم الخاص» للجماعة في مصر، وكان تنظيماً سرياً مسلحاً نفذ عدداً من عمليات العنف والاغتيالات المعروفة، منها اغتيال محمود فهمي النقراشي رئيس وزراء مصر عام 1948 (لاحظوا أن الجيش لم يكن قد ظهر في المشهد بعد، فظهوره الأول كان مع ثورة 1952)، ثم محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في 1954، ومحاولة انقلاب عام 1965، ويبدو أنه ما زال نشيطاً في عمليات الاغتيال والتفجيرات.

والسرية ضرورة لأنها تمكن الجماعة من إنكار انتساب التنظيم لها، وهو ما فعله مؤسسها حسن البنا حين قبضت السلطات على قتلة النقراشي في 1948، إذ أصدر بياناً قال فيه: «ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين».

أما الداعية راغب السرجاني فقط ناله النصيب الأوفر من اللعنات والهجمات على مواقع التواصل الاجتماعي، بدأت هادئة: «أنت لست صالحاً ولسنا قوم ثمود»، ثم تصاعدت إلى السباب والاتهام بالخيانة.

عموماً، ردود الأفعال تبين منهج الجماعة في «مراجعة نفسها»، ولم يحدث في تاريخها كله أن عملت مثل هذه المراجعات الفكرية لمواقفها وتصرفاتها العامة في كل المحن التي تعرضت لها، وصعوبة المراجعة أو استحالتها، سببها أن الجماعة لا تعترف على الإطلاق بأي خطايا كبرى ارتكبتها، وتعامل نفسها كما لو أنها «معصومة»..

باختصار، يستحيل أن تراجع الجماعة نفسها، وهو ما يعني أن الحرب مع الإرهاب في المنطقة العربية طويلة، وإذا اقتصرت على تنظيم داعش فقط فلن تتخلص منه الدول العربية.