يبدو أن شروط حل الأزمة السورية ما زالت تُطبخ على نار هادئة جداً، ولم يحن الوقت بعد لنضوجها، ولذلك نلاحظ أن جميع الأطراف ذات العلاقة تحاول أن تتحرك حراكاً غير ذي جدوى، لكنه يظهرها وكأنها تنشط للتوصل إلى تسوية واستقرار في سوريا، بينما هي في الواقع تدور في فراغ.
وقد تبدى ذلك بشكل واضح في إجراءات وممارسات وأحداث عدة حصلت في الفترة الأخيرة، سواء من قبل أهل السلطة أم من قبل الأطراف الدولية والإقليمية ذات العلاقة.
فقد ألقى الرئيس بشار الأسد أمام مجلس الشعب السوري، خطاب القسم وكان خالياً من أي تعرض جدي للأزمة السورية وللواقع السوري، بل وخالياً من أي مبادرة ذات رؤية مستقبلية، فكأنه كان يتحدث عن دولة لا أزمات فيها ولا حاجة فيها لأي مبادرات لمواجهة صعوبات الواقع ومشكلاته، كما أعيد تكليف رئيس الحكومة السورية بتشكيلها من جديد بعد الانتخابات الرئاسية.
وشكلها بإعادة تكليف 21 وزيراً من الحكومة السابقة، مما يوحي بأن البلاد لا تمر بأزمة ولا تحتاج لمواجهة صعوبات قائمة، ولم يتم التحاور أو التشاور مع أطراف المعارضة المختلفة، المعتدلة وغير المعتدلة، التي لم تشارك في الحكومة، وكأن لا خلافات في البلاد ولا عنف ولا حرب، وبالتالي فلا حاجة لمواجهة أمراض كبيرة وجدية أصابت النظام والمجتمع والناس في مقتل، كالفساد والقمع وتغول أجهزة الأمن وتجاهل الحرية والديمقراطية والمساواة وغيرها..
أي وكأن الحال لا يحتاج لأي جديد وأن ما هو قائم هو خير ما يرام! وزار المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا سوريا، استئنافاً لمهمات كان قد فشل في الاستمرار فيها كل من كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي، وقد تحرك وتصرف وكأنه يملك إمكانية تحقيق تسوية في سوريا وحل الأزمة والتغلب على المصاعب وإنهاء مأساة الشعب السوري، فقابل الرئيس وأطراف المعارضة واستمع لآراء الجميع.
يشير الواقع إلى أن السلطة السورية والمبعوث الدولي بتصرفاتهم هذه، يقفزان في فراغ.
فالسلطة السورية تعرف أبعاد الأزمة وضرورة مواجهتها، رغم محاولة تجاهلها، كما تعرف حاجة سوريا لحكومة أخرى تضم فئات جديدة غير التي كانت تشارك في الحكومة السابقة، فضلاً عن ضرورة تكليف الحكومة بمهمات جديدة ووظائف جديدة تؤهلها للمساعدة في مواجهة الأزمة الخانقة التي تعيشها سوريا والشعب السوري، سواء من الناحية الأمنية أم من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها.
وبدوره يعرف المبعوث الدولي أن جولته لن تستطيع الوصول إلى تسوية ولا حل الأزمة السورية، لأن القضية أصبحت أعقد من أن يحلها وسيط دولي.
ومع هذا تجاهل الجميع عدم جدوى ما يعملونه وما يقولونه، انتظاراً لظهور ملامح تسوية جدية للأزمة. وعلى ذلك فإن طحن الهواء والدوران في حلقة مفرغة و«الحركة بلا بركة»، هي الخيارات الوحيدة المطروحة أمام الجميع.
وصلت الأزمة السورية الآن إلى مرحلة تؤكد أنها لم تعد أزمة سورية صرفة، بمعنى أنها لا تتعلق بالسلطة السورية والمعارضة فحسب، كما أنها لم تعد مسألة إقليمية فقط، بل أصبحت ذات طابع دولي أكثر تعقيداً ربما من أي أزمة أخرى، ويحتاج حلها لموافقة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا وإيران والدول العربية، إضافة إلى الأطراف الداخلية.
وما لم يتم اتفاق أولي ومبدئي بين هذه الأطراف جميعها على تسوية، فإن مثل هذه الإجراءات والنشاطات والتحركات والقرارات، ما هي في الواقع سوى وسائل لتقطيع الوقت والدوران في الفراغ.
تسري إشاعات عدة في هذه الأيام تقول بوصول الدول المعنية إلى إطار عام لحل الأزمة، يتمثل في تشكيل حكومة مؤقتة لمدة محددة أعضاؤها من السلطة والمعارضة، تكلف بإعداد دستور جديد وتولي مختلف الصلاحيات، وصولاً إلى حل دائم لأزمة الدولة السورية وهيكليتها وتوزيع الصلاحيات فيها ووظائفها وأهدافها.
ولكن هذا الاتفاق، حسب الشائعات، هو اتفاق إطار عام، يواجه عدداً هائلاً من الصعوبات والخلافات المحتملة، أهمها من يتولى رئاسة الحكومة، وما هي مدة المرحلة الانتقالية، والصلاحيات المعطاة لهذه الحكومة، ومدى استمرارية تولي الرئيس لصلاحياته من عدمه، وإن استمر فما هي الصلاحيات الممنوحة له، ثم ما هو مصير حوالي 200 شخصية من الموالاة مارست جرائم ضد الإنسانية، وأخيراً ما هي بنية الدستور الذي سيحدد وظائف الدولة السورية المقبلة ومهماتها لسنوات طويلة مقبلة.
وكل من هذه الأمور يمكنه في الواقع أن يفجر مشروع الاتفاق كله، ويؤدي إلى العودة لنقطة الصفر.
وقد زادت الأمور تعقيداً حالياً بوجود «داعش» والمنظمات الإرهابية الأخرى، والخلاف على طرق مواجهتها، وقد تنامت مخاطر الإرهاب والأعمال الإرهابية كثيراً، وأصبحت تهدد لا سوريا وحدها ولا حتى دول المنطقة فقط، بل تهدد مجموعات دولية أخرى كأوروبا والولايات المتحدة وروسيا وإيران والبلدان العربية وغيرها، وهذا يقتضي السرعة في الوصول إلى حل للأزمة السورية، واستطراداً لمواجهة العمل الإرهابي، وإنهاء التباطؤ والتصرف غير الجاد وغير المسؤول تجاه الأزمة السورية.
أما إذا كانت مهمة دي ميستورا مقدمة لإجراءات يتم اتفاق دولي عليها في المستقبل، وتهيئ المناخ لتسوية كعقد مؤتمر جديد في جنيف أو ما يشبه ذلك، فيمكن فهم هذه النشاطات ومسوغاتها، وعندها لن تكون حراثة في البحر.