يتصور كثير من مفكري العرب ومثقفيهم أن «داعش» ليس تنظيماً رهيباً يستلزم تحالفاً دولياً وحرباً عالمية للتخلص منه، وإنما هو مجرد حلقة أخرى في سلسلة مفككة من تنظيمات إسلامية مصطنعة، لا تمثل إلا نسبة هامشية للغاية من مسلمي العالم ومعزولة شعبياً.
وليس له عمق في وجدان المسلمين أو أفكارهم، وهو أقرب إلى التنظيمات المسلحة التي عرفها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، مثل ويزراندرجروند الأميركية، والأولوية الحمراء الإيطالية، والجيش الأحمر الياباني، وبادر ماينهوف الألمانية.. و
غيرها، وانتهت سريعاً، لكن داعش قد يعيش عمراً أطول، فقط بسبب انتسابه قسراً إلى الدين الحنيف.
بل إن البعض يجنح في تصوراته إلى أن الصورة الذهنية الهائلة التي تشكلت لتنظيم داعش وانتشرت في العالم، هي من صناعة الإعلام، وبعضها مقصود لغرض في نفس يعقوب، وبعضها عن جهل وبحث عن إثارة جالبة للإعلانات.
وبعيداً عن هذا التوصيف، يظل السؤال الأهم ملحاً: هل الحرب على داعش واجب لا بد منه للحفاظ على استقرار المنطقة وسلامة دولها من الصراعات والتشرذم؟ قطعاً الحرب واجبة بعد أن تسبب التنظيم في انقسام فعلي في دولتين هما سوريا والعراق، الأولي في القلب بين شرقي العالم العربي وغربه، والثانية على حدود الخليج أكثر مناطق الطاقة أهمية على كوكب الأرض..
لكن في الوقت نفسه الحرب بالطريقة الأميركية لها أضرار هائلة، ربما أشد خطراً على منطقة الشرق الأوسط كلها من مخاطر وجود التنظيم وتحركاته وتهديداته، وهذه هي المعضلة الصعبة. .
وإذا قيمنا الحل الأميركي الأخير في العراق على المنطقة العربية كنموذج لسياساتها، لن نجد صعوبة في إدراك أنه كارثة دائمة، لن يستطيع النظام العربي برمته تجاوز تداعياته ونتائجه في الخمسين سنة المقبلة على الأقل.
أولاً: مهد لتفتيت العراق، والعراق كان ركناً مهماً في الجناح الشرقي للبيت العربي، يصد غوائل ورياح عاصفة عن اقتحامه، ربما لم يمنعها كلياً لكنه على الأقل كان يحد من خطورتها، ولم يعد موجوداً العراق الذي عرفه العالم لخمسين سنة متصلة، وها هو عراق جديد يتشكل، لا هو ديمقراطي ولا هو استبدادي، لا هو دولة واحدة ولا هو دويلات مفتتة، لا هو مستقر ولا هو منفلت، بل حالة مختلطة من التماسك والسيولة صنعتها الفوضى الأميركية «الخلاقة».
وهذه الحالة المضطربة ألقت بظلالها على الجار السوري الذي يتشابه في بعض التكوين السياسي والاجتماعي مع العراق، فنمت في سوريا عناصر عدم الاستقرار، توافرت لها بيئة من الاستبداد السياسي والاقتصادي، وتطورت تلقائياً وطبيعياً إلى حرب أهلية ودمار، ولاجئين بالملايين في بلاد مختلفة.
ثانياً: إشعال نيران فتنة طائفية مذهبية على نطاق خطير، حتى لو كان جزءاً كبيراً منها ما زال تحت الرماد، تؤججها دول وأجهزة مخابرات، لتتوسع بانتظام وتتيح لأطراف خارجية الوجود الفعال في الساحة وتحافظ على العراق منطقة قلاقل قابلة للتصدير في أي وقت.
ولو دققنا النظر في ظاهرة داعش، سنجد أنها «ابن الحرام» المتوقع من علاقات سياسية واقتصادية واجتماعية مختلة، كانت لها الغلبة بعد الاحتلال الأميركي للعراق.
وتعد هذه الأسباب دافعاً قوياً يتطلب من العرب جميعاً القضاء على داعش، والأميركان يطلبون تحالفاً دولياً، حتى لا تبدو حرباً بين تنظيم إسلامي ودولة غربية، يسهل أن يصفها أصحاب الغرض والمرض بأنها حرب على الإسلام.
لكن التدخل البري حتى لو اشتركت فيه قوات رمزية من دول عربية لن يعدل هذه الصورة، لأن المنطقة تعيش بالفعل على حافة أفكار مختلطة ومضطربة، وفيها رجال دين يصنعون من التوتر أكثر مما يصنعون من الاستقرار، كما أنها واقعة بين براثن صراع قد يستهلك وقتاً، نتج عن انتزاع السلطة من تيار ديني كان يُعد نفسه لحكم المنطقة العربية خمسة قرون مقبلة، ويمكن أن يستغل الأوضاع المرتبكة في تأجيج نيران الغضب دفاعاً عن الإسلام، ناهيك عن شبح المذهبية الذي أطل برأسه ويفتش عن ثغرة ليتحول إلى بركان ثائر.
باختصار، هذه مخاطر حقيقية، والبديل هو أن يموت داعش في مكانه.
داعش ليس تنظيماً ميكانيكياً، وإنما هو تنظيم بشري له احتياجات من تمويل واستبدال ذخائر وتطوير تسليح، والتحالف الدولي عليه أن يضع خطة حصار محكمة، تجفف منابع التمويل وتقطع خطوط الإمداد ووسائل الإعاشة عنه، والذين يمولون داعش ويهربون إليه الأسلحة معرفون، والذين يشترون منه بعض النفط السوري معروفون.
والحل الأمثل هو تجفيف البيئة المحيطة بتنظيم داعش حتى يسقط من الجفاف.