لاشك أن للإرهاب أسباباً عديدة، ولعل العامل الجدي والشامل المغذي لمعظم هذه الأسباب هو الاستبداد، الذي يرسم بشكل فعال نهج التعاون مع مختلف أسباب الإرهاب الأخرى وتنبثق منه منابع هذا الإرهاب ووسائل تغذيته.
يلغي الحكم الاستبدادي الحريات السياسية وغير السياسية والديمقراطية والمساواة، ويكرس المحسوبية، ويهمش تكافؤ الفرص، ويلغي الحوار، ولا يهتم بالعدالة ولا بحقوق الإنسان ، ويركز السلطات بيد جهة واحدة، ويصادر من الشعب مجالسه التشريعية والتنفيذية وهيئاته.
وبالتالي يضع الشعب وتياراته السياسية وفئاته الاجتماعية ومنظماته المدنية في طريق مسدودة من خلال رفض سماع مطالبها والحوار معها، بحيث لا يبقى أمامها سوى الانتفاضة أو العنف لتحقيق هذه المطالب .
نلاحظ في البلدان العربية أن الإرهاب والعنف ازدهرا في الجزائر وليبيا وتونس والسودان واليمن وسورية وبعض البلدان العربية الأخرى، مما يشير إلى أن الأنظمة السياسية في معظم هذه البلدان (لم تترك للعبر بقية) ولم تسمح لشعوبها بالحوار، أو تعترف بحقوقها، أو تعزف عن السياسة الأمنية الصارمة وسياسة الفساد، اللتين اعتمد عليهما النظام حتى تغولا.
فطغى الفساد وبغى ودخل كل خلية من خلايا المجتمع، وكل سلوك من سلوكه، وصار شريكاً في رسم الحياة الاقتصادية والسياسية والحياة اليومية عامة، كما تغوّلت أجهزة الأمن وأعطت لنفسها الحق بالقمع والاعتقال والمصادرة والظلم دون رقيب أو حسيب أو ملاحقة أو الاعتراف بالقضاء والقانون وأحكامهما.
وهذا كله أغلق المنافذ أمام أي انفراج مجتمعي أو سياسي ، وحرّض الشعب على ممارسة الطرق غير المعتادة للوصول إلى حقوقه المشروعة، ولم يترك أمامه وسيلة سوى الانتفاضة والثورة بل ربما العنف كطريق وحيدة للخلاص، وهذا ما مارسته الجماهير الشعبية وبعض تياراتها السياسية في البلدان العربية التي أشرت إليها.
ولهذه الأسباب لانجد حماساً جماهيرياً كبيراً معادياً للإرهاب، لأن بعض فئات الجماهير الشعبية تعتقد بشكل ما أن ممارسات الإرهابيين تثأر لهم لما واجهوه من إهانات وتهميش وإقصاء، ولا تفكر إلى أمد بعيد ولا ترى المستقبل المرّ إذا انتصر الإرهابيون وشكلوا المجتمع الذي يدعون إليه وهو مجتمع خارج الزمان والمكان أي خارج العصر الذي نعيش فيه.
لم تأت الأنظمة الشمولية والدكتاتورية للسلطة باختيار شعبي أو بطرق مشروعة متعارف عليها، ولذلك لجأت للنفاق والتدليس لإرضاء الناس والظهور بمظهر الحاكم الذي تؤيده الجماهير، وفي ضوء ذلك لم تجرؤ هذه الأنظمة على تطبيق معايير الدولة الحديثة وخاصة الحرية والديمقراطية ، ولا انتخابات ديمقراطية.
وبذلك ازداد الظلم ظلماً، كما كانت هذه الأنظمة تصر على ممارسة القمع وتهميش الناس وإقصائهم، مما حرض الشعب على اتباع مختلف الأساليب للوصول إلى أهدافها، وقد استغلت تنظيمات إرهابية متطرفة هذا الوضع فتبنت العنف والإرهاب لتحقيق أهداف مختلفة.
وهكذا نلاحظ أن الأنظمة الشمولية والدكتاتورية وأنظمة القمع هي المسبب الحقيقي للإرهاب وتطوره وانتشاره في مختلف البلدان العربية.
تواجه البلدان العربية خلال محاربة الإرهاب صعوبتين رئيسيتين الأولى أن الأنظمة التي كانت المسبب الرئيسي لنشوء الإرهاب هي التي تحاربه الآن، وبالتالي تتجاهل أو تجهل أن أسبابه أكثر تعقيداً وأنه من الصعب هزيمته بالعنف والسلاح والحرب وأن لا بد من تجفيف منابعه التي سببتها هذه الأنظمة نفسها.
والصعوبة الثانية هي أن الجماهير الشعبية مخدوعة وغير مقتنعة تماماً بأن محاربة الإرهاب هي الأولوية بل ما يزال بعضها يعتبر أن المنظمات الإرهابية منظمات متدينة تسعى لخير الناس ونصرة الدين ومواجهة الأنظمة الاستبدادية والغرب الاستعماري.
وذلك بسبب تربيتها التي تراكمت خلال عشرات السنين، مما يترك المعركة بين منظمات الإرهاب والجيوش المسلحة وجهاً لوجه دون الاهتمام بالحواضن الشعبية لهذا الإرهاب التي ينبغي أن تلعب الدور الرئيس في مواجهته.
إن المشكلة ليست عابرة إذاً، ولا هي معركة طارئة، كبرت أم صغرت، وإنما نهج واسع تتداخل فيه عوامل متعددة، ويقتضي الأمر تضافر عدة أساليب وفئات شعبية ونشاطات مختلفة، فضلاً عن إعادة تربية الناس وتشكيل وعيهم تمهيداً للقضاء النهائي على الإرهاب ومنظماته وإنهاء الحروب معها والعودة بالمجتمعات إلى تطورها الطبيعي.