يلجأ بعض الكتاب المؤيدين لداعش إلى كثير من الخبث في التعامل مع قضية الإرهاب التي تضرب العالم من قلب الشرق الأوسط، فهم لا يستطيعون تجاهل ما تفعله داعش وتلك الجماعات من أعمال عنف وقتل وترويع للناس تصل إلى حد «جرائم ضد الإنسانية».

فيعلنون موافقتهم على مضض على قصف «داعش»، لأنه يرتكب فظائع لم تتح لهم أي فرصة للتعاطف معها، ثم يستدركون قائلين: «ولكن خطورة داعش تتمثل في الفكرة قبل أن تكون الدولة والتنظيم»، وهي عبارة منقوصة فيها كثير من السم الزعاف.

فأولاً.. داعش ليس دولة، حتى لو سمى التنظيم نفسه بذلك، فالدولة في الأدبيات السياسية لها أصول وقواعد وأركان ومكانة، وقطعاً تنظيم داعش يفتقدها جميعا حتى لو كان يسيطر على بقعة من الأرض ويفرض عليها «قوانينه» باسم الشريعة، وهو يشبه في ذلك عصابة منظمة تسيطر على مدينة نائية أو منطقة جبلية وعرة، ثانيا..

أن الفكرة بالفعل هي الأخطر، فالتخلص من التنظيم سهل، لكن الفكرة لا ترتبط بداعش على الإطلاق، وليست هي صاحبتها، وإنما هي فكرة قديمة ضاربة في تاريخ المسلمين، وربطوها ربطا تعسفيا بالدين الحنيف، ولاتزال ممتدة وتتبناها من وقت لآخر جماعة متطرفة، ولاتزال مؤثرة في دول إسلامية كثيرة.

وفي الغالب يُرجع هذا النوع من الكتابات أسباب ظهور داعش وأخواتها إلى ثلاثة أسباب.. هي أن الظلم المتراكم الواقع على جماعة من البشر يُولد حقدا ورغبة في الانتقام، والطائفية المقرونة بالتعصب،وتأثير الثقافات السلفية التقليدية بصورتها التي تتوسع في تكفير الآخر وإنزال «حد الردة» بالمخالفين للمسلمين.

ولو تأملنا الأسباب الثلاثة لن نجدها تفسر «ولع» جماعات المسلمين السياسية في العصر الحديث بالسعي إلى السلطة وتكوين دولة خلافة يحكمون بها العالم، وإن كانت تحاول شق ثغرة يبرر بها هؤلاء الكتاب عنف تلك الجماعات.

ومعروف مثلا أن جماعة الإخوان المسلمين الأقدم في المنطقة لم يكن أعضاؤها يعانون من اضطهاد أيام الملكية في مصر، ولم يُمارس ضدهم أي طائفية عنصرية، وبالرغم من هذا مالوا إلى العنف والقتل للتخلص من معارضيهم وسعياً وراء «أستاذية العالم»، أي حكمه باسم الخلافة الإسلامية.

باختصار يستمد فكر داعش وأخواتها من «موروثات قديمة» في بعض كتب الفقه، أغلبها نتج في ظروف تاريخية خاصة مثل أفكار ابن تيمية التي صاحبت غزو التتار للعالم الاسلامي، وهو بالفعل ما يجب أن نتعامل معه بالدراسة والتمحيص والتحليل ومراجعة أصوله الشرعية وصلاحيته، حتى ننقي هذه الموروثات من «أغلاط وأخطاء» كامنة فيها، تستدعيها هذه الجماعات وتهدد بها دول المسلمين بالانفجار والانقسام والتشرذم.

ومن المقولات الشائعة التي يلعبون بها مع عقول البسطاء أن الإسلام لا يدعو ولا يعرف الدولة الدينية بأي شكل من الأشكال، وهي عبارة صحيحة ولكنها تغفل أن الدولة الدينية لا يحكمها بالضرورة رجال دين سواء كانوا كهنة أو أحباراً أو دعاة.

ويكفي فقط أن تُؤسس على مرجعية مستمدة من تفسيرات دينية، تتحكم في أنشطة مواطنيها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتصرفاتهم العامة وعلاقاتهم الشخصية بعضهم بعضا داخل حدود هذه الدولة أو مع الآخر الأجنبي.

وتُقاس سلوكيات هؤلاء المواطنين وفق مفهوم الحرام والحلال وهو مفهوم مطاط قد يرتبط بالنية، والنية على سبيل المثال عنصر أساسي في علاقة المسلم بالله والمجتمع، بينما التصرفات في الدولة غير الدينية تُقاس بالقانون والخطأ والصواب والأفعال المادية فقط وليس بالنيات.

وعموما هذه التفسيرات الدينية للسلطة والحكم ينفذها بشر يتصورون أنهم يطبقون تعاليم السماء، باسم «الحاكمية لله».

وكلمة «الحكم» بكل مشتقاتها اللغوية المختلفة وردت في آيات القرآن الكريم سبعة وتسعين مرة، كلها بمعنى القضاء، وليس بمعنى السلطة والحكم، والذين يسعون وراء الخلافة هم الذين خلطوا معناها بالسياسة والسلطة، ويزعمون أن السياسة هي تطبيق مبادئ الدين، وأن الحكم بصفة مطلقة هو لله، كما لو أن الدين يطبق نفسه بنفسه، والنص يقطع بما فيه، وهذه عبارات في منتهى الخطورة.

لأنها لا تفصل بين ما هو من عند الله وما هو اجتهاد من البشر في التفسير، وقد يكون صحيحا وقد لا يكون، فتسيل الدماء وتقطع الرقاب، وقد حدث في الماضي ويحدث الآن على يد «داعش» في العراق وسوريا، و«بوكو حرام» في نيجيريا، و«أنصار المقدس» في سيناء وغيرهم في ليبيا واليمن والصومال..الخ.

باختصار علينا أن نفتح ملف هذه الموروثات ويدخل المسلمون في حوار عام حولها، حتى يستبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فتختفي داعش وأخواتها إلى الأبد.