من أهم عيوب الطفرة التقنية والمعلوماتية الهائلة التي نشهدها حالياً، العزلة الاجتماعية وانحسار التواصل الإنساني إلى الحد الأدنى، فقد بات معظمنا يقضي ساعات طويلة كل يوم في استكشاف العالم الافتراضي، ولكننا نفشل في استكشاف العالم الحقيقي من حولنا، ويوماً بعد يوم يزداد عقوقنا للطبيعة الأم، التي خلقها الله سبحانه وتعالى لنستمتع بها ونتواصل معها، لتساعدنا على تعزيز صحتنا العقلية والروحية والبدنية. فمن المهم لنا كوننا بشراً، أن نعود إلى أحضان الطبيعة ونتأمل في نظامها الرباني البديع، ونتصالح معها ونقدرها، ونبذل الجهد للمحافظة عليها للأجيال القادمة.

وترسيخاً لرسالتها في تعزيز الوعي البيئي، والتنمية المستدامة في إمارة أبوظبي، وضمان استمرار إدراج القضايا البيئية ضمن أهم الأولويات في الأجندة الوطنية، افتتحت هيئة البيئة - أبوظبي مؤخراً محمية الوثبة للأراضي الرطبة، ومتنزه القرم الوطني أمام الجمهور، للتعرّف إلى ثرواتنا الطبيعية عن قرب، في إطار جهودها لتحقيق أهداف رؤية أبوظبي 2030.

يظن البعض أن الطبيعة في دولة الإمارات عبارة عن الصحارى والبحار وحسب، وأن التطور الذي تشهده بلادنا يتم في مجال التنمية العمرانية فقط، ولكن ما لا يعرفه الكثيرون أن لدينا العديد من المساحات الحاضنة للطبيعة، التي تزداد رقعتها عاماً بعد عام.

بدأ الاهتمام بالطبيعة على يد المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الذي شكلت قضية الحفاظ على البيئة وتنميتها هاجساً ملحاً له، حيث أدرك بفطرته السليمة ونظرته الثاقبة أهمية هذه القضية، وحق الأجيال القادمة في الاستفادة من مواردها.

وكان الشيخ زايد أول من وجه بإنشاء المحميات الطبيعية التي تعد إحدى وسائل الحفاظ على التوازن البيئي، وتسهم في منع استنزاف وتدهور الموارد الطبيعية، بما يضمن بقاء وحفظ التنوع البيولوجى اللازم لاستمرار الحياة، كما تسهم المحميات الطبيعية في دعم توازن العلاقة بين الإنسان والطبيعة، من خلال تغيير سلوكه ومواقفه تجاه هذا المحيط، إضافة إلى توفير درجة من الحماية البيئية بسبب وجود الرقابة المستمرة.

وفي عام 1998 أعلن الشيخ زايد، طيب الله ثراه، الوثبة منطقة محمية، بعد أن شهدت تسجيل أول عملية تكاثر ناجحة لطيور الفنتير (الفلامنغو)، حيث رأى بحكمته وبصيرته، أن هذا الموقع يوفر موئلاً مناسباً للطيور المهاجرة، ولتغذية وإكثار هذا النوع. ومنذ ذلك الحين تدير هيئة البيئة - أبوظبي هذا الموقع المتميز، وتتبنى برنامجاً لتعقب طيور الفنتير بواسطة الأقمار الاصطناعية، ساعدنا على جمع بيانات مهمة عن تحركاتها وأعدادها التي تزور شواطئ الإمارة، ومسار هجرتها. والعام الماضي، حصلت محمية الوثبة للأراضي الرطبة على اعتراف دولي، وتم إعلانها أحد مواقع »رامسار« ضمن قائمة تضم 2000 موقع معترف بها عالمياً.

وتولي إمارة أبوظبي اهتماماً خاصاً بأشجار القرم، التي تمتد على مساحة تصل إلى 14,000 هكتار، وهي تشكل أحد أهم النظم البيئية الساحلية والبحرية التي تدعم مصائد الأسماك، والطيور، والسياحة البيئية، وتلعب دوراً مهماً في حماية السواحل. ولأشجار القرم أهمية اقتصادية وبيولوجية كبيرة، فهي ملجأ طبيعي للأسماك الصغيرة، وتحتضن العديد من القشريات أهمها الروبيان، وتعمل على حماية الشواطئ من التآكل.

وبيّن مشروع الكربون الأزرق الذي أطلقته مبادرة أبوظبي العالمية للبيانات البيئية مؤخراً، أهمية غابات القرم التي تعمل على تخزين وعزل الكربون بشكل مستمر، وبمعدلات تفوق أحياناً الغابات الاستوائية.

وبذلت هيئة البيئة- أبوظبي جهوداً حثيثة لإعداد متنزه القرم الوطني، وعملت على ضمان عدم تأثير الأنشطة المختلفة على أشجار القرم أو التنوع البيولوجي في المنطقة.

وتعاونت الهيئة مع شركة الاستثمار والتطوير السياحي في أبوظبي، لوضع لافتات تضم معلومات أساسية حول أشجار القرم والأنواع المتواجدة في المنطقة، فضلاً عن القواعد السلوكية التي يجب اتباعها عند زيارة المنطقة، مع توفير البنية اللازمة مثل إعداد ممشى وتحديد مسارات للقوارب، لتنويع التجربة البيئية وتوفير موقع لمشاهدة الطيور.

ولضمان استمرار إدراج القضايا البيئية ضمن أهم الأولويات في الأجندة الوطنية، يجب تحقيق ارتباط جميع المواطنين والمقيمين على هذه الأرض الطيبة بالبيئة، واشتراك الجميع في جهود الحفاظ عليها، فالحفاظ على البيئة ليس مسؤولية الحكومات أو المؤسسات فقط، وإنما يشترك فيه جميع أفراد المجتمع. ويتم تعزيز ذلك عن طريق برامج التوعية والإرشاد، وعبر تسهيل وصول الأفراد للطبيعة.

تشهد دولة الإمارات ازدهاراً في مجال التنمية العمرانية والاقتصادية، ولكننا نود أن يعرف العالم، وعلى وجه الخصوص المواطنين والمقيمين على هذه الأرض، أن بلادنا تمتلك مقومات طبيعية خلابة، ومحميات برية وبحرية تحتضن آلاف الأنواع المختلفة، فنحن لا نهتم بالتطور العمراني على حساب الطبيعة، ومع تطور ونمو مدننا، يجب ألا نتخلى عن حماية المناطق الطبيعية أو حتى المساهمة في خلق هذه الأماكن- كما في حالة محمية الوثبة ومتنزه القرم- فالطبيعة يمكنها أن تتعايش داخل النسيج الحضري، بل وتُثريه.