لا يحيا المرء حياته على بُعد واحد، لأن الوجود متعدد الأبعاد والوجوه والمستويات. والعاقل، بل صاحب الحظ السعيد، هو من يحسن التوليف بين أبعاده المختلفة وميوله المتعارضة، لكي يحيا حياة سوية، متوازنة، منسجمة، وبما يتيح له ممارسة حيويته الوجودية بكل أبعادها العاطفية والسياسية والفنية.
المعرفة هي ميزة الإنسان، ومن غيرها يستحيل أن يتدبر وجوده ويرعى مصالحه، بحيث يتجنّب ما هو ضار وسلبي أو هدام، ليأتي بالنافع ومالثمر أو الإيجابي البنّاء. والمعرفة قد تكون نظرية على شكل علوم لها مبادئها وأنظمتها وأنساقها، أو عملية على شكل دراية لها قواعدها وآلياتها. والأفضل هو الجمع بين النظر والعمل، بين العلم والدراية.
ولا أجد أنسب من كلمة «تدبير» للتعبير عن هذا المعنى الجامع، لأن المدبر هو من يكون على علم بحقائق الأمور وعلى بينة مما يريد الإقدام عليه، بحيث يحسن الأداء والإنجاز في ما يضعه من خطط واستراتيجيات، وعلى النحو الذي يمكنه من إدارة الأشياء وترتيب الأفعال، وصولاً إلى الأهداف الموضوعة أو الغايات المنصوبة، ولو بنسبة معقولة، إذ لا هدف يمكن تحقيقه بصورة تامة، إلا في عالم الفردوس الموعود.
وفعل المعرفة ليس عملاً بسيطاً وحيد الجانب، وإنما هو فعل مركب له مستوياته وطبقاته. فالمستوى الأول تمثلّه المعرفة الضرورية التي تتيح التمييز بين ما هو نافع وما هو ضار، أو آمن وخطر. على هذا المستوى للحيوان حظه من المعرفة، على الأقل في ما يخص مصادر غذائه ومجال أمنه.
ولكن الإنسان يتعدى هذا المستوى كمّاً ونوعاً، فهو يعرف، ويعرف أنه يعرف، بما يكوّنه من تصورات حول ما يعرفه أو يعتقد به. وهذه المعرفة الارتدادية التفكرية، هي الأساس في انبجاس الوعي والإحساس بالهوية.
وهناك مستوى ثالث، وهو أن الإنسان إذ يرتدّ على ذاته، قد يُخضع معارفه للنقد والفحص أو النظر والتأمل، لكي يتساءل عن دلالتها الوجودية أو عن جدواها العملية.
وهنا يتبدى الفرق بين ما تنتجه العلوم من المعارف حول الواقع والطبيعة والإنسان، وبين ما تقدمه الفلسفة من الرؤى والتأملات أو القراءات والتأويلات.. وهكذا فالعلم يكشف حقيقة، ولكنه لا ينتج معنى أو قيمة. مثال ذلك أن العلم يقدم لنا كشوفات مذهلة عن بنية الذرة أو أبجدية الخلية أو خريطة الدماغ، ولكنه لا يقول شيئاً عن معنى ما نعرفه أو دلالة ما نكتشفه.
كذلك، فالعلم هو مصدر لإنتاج أدوات فائقة تتيح إنتاج طاقة نووية أو توليد أطفال في حاضنات اصطناعية، ولكنه لا يقول لنا ما يجب فعله، ولا يفيدنا حول مشروعية أو جدوى ما ننتجه أو نستخدمه من الأدوات والتقنيات.
ولا شكّ أن المعارف العلمية باتت ضرورية، بعد أن أصبحت أساس الحياة المعاصرة بأسبابها وأنشطتها وتطورها، ومع ذلك فهي ليست كافية، في ما يتعلق بالمعنى والقيمة أو القصد والغاية، فهذه من اختصاص الفروع الأدبية، وخاصة الفلسفة التي تهتم منذ نشأتها بثالوث الحق والخير والجمال، سواء كانت الفلسفة نزعة فطرية تدفع صاحبها للتساؤل عن معنى الأشياء وقيم الأفعال، أو مهنة وحرفة تهتم بإنتاج النظريات والمفاهيم أو النماذج والمعايير.
المهم أنه، وأيا كانت أصناف المعارف ودرجاتها، لا وجود لمعارف هي حقائق مطلقة أو نهائية.
لقد ولّى عصر اليقينيات القاطعة في مختلف المجالات، فالعلوم والمعارف والفلسفات، فضلاً عن الأدوات والتقنيات، تحقّق كل عقد من السنين، وربما أقل، قفزات نوعية تتجدد معها النظريات والمناهج أو الأساليب والنماذج.
وهذا ما يربك من يتابع حركة تطور العلوم واتساع المعارف وتجدد الأفكار، إذ يبقيه على قلق أو توتر، سواء بصورة سلبية؛ عندما يجعله يتشبث بثوابته التي تتحول إلى عوائق أو مآزق في مواجهة التحولات والتحديات، أو إيجابية؛ عندما يتحول القلق إلى أسئلة مثيرة ومنتجة، والتوتر إلى نشاط حي وخلاق لتجديد أطر النظر وقواعد العمل، شبكات الفهم وأساليب التدبير.