في زيارتي الأخيرة إلى مزرعة أبي، الكائنة في منطقة دبا الفجيرة، آلمني منظر أشجار النخيل الذابلة، كان بعضها متهاوياً، والبعض الآخر فَقَد الحياة تماماً، وهذا ليس في مزرعة أبي فحسب، وإنما في أغلب مزارع النخيل القريبة والبعيدة. وعندما سألت أبي عن السبب، أجابني:

يا ولدي إن منسوب الماء في هذه المنطقة قد قلّ وزادت فيه الملوحة، فضلاً عن أن صاحب هذه المزرعة أو تلك أوكل أمورها إلى «البيدار»؛ أي عامل المزرعة (الآسيوي) ليقوم برعاية شؤونها كاملة، و «مال عمّك ما يهمّك» كما يقول المثل الإماراتي، لأنها، حسب كلام والدي، لا تجدي نفعاً كثيراً، بل إن خسارتها أكبر من نفعها. وهذا بطبيعة الحال من الجانب المادي لا المعنوي، لأن النخلة رمز الكرم والشموخ والأصالة والعطاء.

عندما دخلت المزرعة، وهي المرة الأولى لي منذ خمسة عشر عاماً، بحثت بلهفة عن نخلتي التي كنت أرعاها صغيراً، وهي التي منحها لي أبي وأطلق عليها اسمي منذ ولادتي، إذ كان والدي (أطال الله في عمره) كلما رُزق بمولود يطلق اسمه على شجرة من أشجار النخيل الموجودة في مزرعته، وبعد أن يكبر هذا المولود يتولى رعاية هذه النخلة.

حين شاهدت نخلتي أسرني الحنين إليها، وفاضت نفسي بمشاعر حميمة نحوها، لقد كان شعوراً أشبه بمن أضاع طفله ثم وجده. ورغم غيابي عنها سنوات طويلة، إلا أنها بادلتني الشعور نفسه كما أزعم، وأظنها كذلك، وإلا لمَ انتابني هذا الحنين الجارف نحوها. أليس في عالم الأشجار مشاعر الحب والحنين والسرور والألم؟ إن الشجرة تشبه الإنسان في كثير من الصفات، خصوصاً النخلة التي هي في الأساس رفيقة الإنسان وضالته.

لقد استخدمها الإنسان قديماً ولا يزال، في مختلف مجالات الحياة، فقد مثلّت بالنسبة إليه الغذاء والمسكن والملبس والتطبب والدفء والسعادة، كانت عصب الحياة، كيف لا وهي الشجرة المباركة التي ذكرها الله تعالى في مواضع عدة من القرآن الكريم ((والنخل باسقات لها طلع نضيد)) الآية 10 سورة ق.

اليوم، تواجه النخلة نوعاً من الهجر وعدم الاهتمام من جانب كثير من الناس، خصوصاً الشباب، وهو أمر لا يليق بشجرةٍ كالنخلة.. كيف يهجر المرء رفيقة دربه التي كانت تعينه على مواجهة شظف الحياة وقساوتها؟ أليس هذا نكراناً للجميل؟

أليست هي التي وقفت إلى جانب آبائنا وأجدادنا وأسبغت عليهم كرمها من دون منة أو أذى؟ أين أبناء اليوم من هذه الشجرة المباركة؟ هل نسوها تماماً من حيث إنهم لا يحتاجونها اليوم في حياتهم الجديدة؟

رحم الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الذي أكرم هذه النخلة وأولاها اهتماماً منقطع النظير، وجعلها على قمة أولوياته. لقد بذل، رحمه الله، كل الجهود وسخّر الطاقات في سبيل تطوير زراعة النخيل على مستوى زيادة أعدادها واتساع الرقعة المزروعة فيها في مختلف مناطق الدولة..

بالإضافة إلى زيادة الإنتاجية وتحسين نوعية التمور. وهذه الجهود وضعت إمارات الخير والعطاء والسعادة في مكانتها المتقدمة والريادية في مجال زراعة النخيل على مستوى العالم..

إذ بلغ العدد الفعلي لأشجار النخيل في الدولة أكثر من 42 مليون شجرة نخيل، تنتج أكثر من 73 نوعاً من أجود أنواع التمور في العالم. وقد دخلت الإمارات «موسوعة غينيس للأرقام القياسية» كأول دولة في العالم في أعداد شجر نخيل التمر، وذلك في العام 2009.

هذا ما زرعه زايد الخير رحمه الله، وخلفه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، فهل لنا نحن معشر الأبناء أن نتعلم منهما؟ نصنع صنيعهما ونسير على نهجهما القويم؟!