كانت لي زيارة لإمارة الشارقة، ولكن بعد 14 عاماً، لكي أشارك، كما المرة الأولى، في معرض الكتاب في دورته الثالثة والثلاثين. وقد فوجئت بالتغير الهائل الذي طرأ على هذه الإمارة، إذ لحقت بشقيقتيها دبي وأبوظبي، من حيث التطور الحضري والازدهار العمراني، كما في الأبراج العالية التي تناطح السحاب، والتي تبدو نوافذها المضاءة ليلاً، كأنها نجوم ترصّع السماء

. كذلك فوجئت بمعرض الشارقة، أولاً من حيث تنوعه وغناه، إذ إن فاعلياته تشمل مختلف القطاعات، من ركن الطفل إلى قاعة الفكر، ومن ملتقى الأدباء إلى جوائز الكتاب، ومن علم المكتبات إلى ردهات الإعلام، وسواها من الأنشطة المتعلقة بصناعة الكتاب، هذا فضلاً عن الحشد الكبير من المشاركين، إماراتيين وعرباً وأجانب.

إنه معرض عالمي بامتياز، إذ ما من فاعلية إلا وشارك فيها إماراتي وعربي وأجنبي. وعالمية المعرض هي وجه لعالمية الإمارات، وغيرها من بلدان الخليج، التي تمارس هويتها اليوم بصورة مركبة تجمع بين الطابع الوطني، والبعد العربي، والمدى العالمي، في مختلف جوانب الحياة وأنشطتها.

ومن حسن حظ دول الخليج، وبالأخص الإمارات العربية المتحدة، أن لم يستلم السلطة فيها منظّر أصولي، قومي أو إسلامي أو يساري، وإلا لكان المآل هو الفشل والخراب، كما يشهد بعض دول المشرق العربي، بل قادها حكام تصرفوا كساسة همّهم الأول النهوض ببلدانهم واستثمار ثرواتها بعقول مرنة، مركبة، راشدة، تحسن الإدارة والتدبير.

والنتيجة هي تحول عواصم الخليج إلى واحة مزدهرة، هي ورشة دائمة لصناعة الحضارة العالمية.

وقد كانت لي مداخلة في ندوة «حوار الشرق والغرب»، منطلقها الفكري أننا تجاوزنا ثنائية الشرق والغرب. فنحن لم نعد في زمن كبلر ولا في زمن رينان، بل تجاوزنا مقولة هانتنغتون حول صدام الحضارات، لأننا نعيش في ظل حضارة واحدة، وإن تعددت الثقافات والانتماءات أو اللغات والجنسيات.. والوقائع تفاجئ وتصدم في هذا الخصوص.

أولاً، على المستوى الاستراتيجي. فبعد أكثر من قرنين من مقارعة الغرب بوصفه الغازي والمستعمر الذي يحتل البلدان وينهب الثروات، ها نحن، المنخرطين في حروبنا الأهلية الفتاكة، نستنجد بالدول الغربية لكي تردع بعضنا عن بعض، وربما لكي تؤلب بعضنا على بعض، في ما يسمى «الحرب على الإرهاب».

لنفق من غيبوبتنا: نحن نتهم الغرب بأنه مصدر مصائبنا، فيما هو يشكل الملجأ للعرب الهاربين من جور حكوماتهم أو فقر مجتمعاتهم، كما يشكل الملاذ لكل أفواج المعارضة السياسية والثقافية والدينية، من محمد عبده والأفغاني إلى الخميني، ومن «الإخوان المسلمين» إلى المعارضة السورية.

ثانياً، على المستوى الحضاري، حيث التحولات والطفرات هائلة وبنيوية بقدر ما هي جذرية ووجودية. فمع الدخول في العصر الرقمي يتغير العالم بمشهده ونظامه، بمفاهيمه وقيمه، بقواه واللاعبين على مسرحه. إنها عولمة المجتمعات على غير صعيد:

الأول، هو التداخل والتشابك في المصالح والمصائر، كما تشهد المعضلات على غير مستوى وصعيد... ولذا لم يعد بالإمكان الفصل الحاسم بين ما هو محلي وكوكبي أو خصوصي وعالمي، مما يعني عولمة المشكلات على المسرح الكوني.

الثاني، هو تعاظم حركة الهجرة والانتقال والاختلاط بين الشعوب، إما هرباً من الاستبداد والفقر أو فراراً من الحروب الأهلية، الأمر الذي ينتج هويات هجينة، عابرة، متعددة اللغة والجنسية أو المهنة والإقامة.

إنها عولمة الهويات، التي هي الوجه الآخر لعولمة المشكلات.

ولا أنسى عولمة المدن، والشاهد أمامنا هذا المعرض العالمي للكتاب الذي تقيمه الشارقة. ولا أنسى مدينة دبي التي كانت الأفضل هذا العام في المؤتمرات واللقاءات العالمية، وكان آخرها قمة مجالس الأجندة العالمية، وقد شاركت فيها شخصيات سياسية واقتصادية وفكرية، مشكّلة بذلك منصة عالمية لاجتماع الأفكار المتعلقة بصياغة الحلول وصناعة المستقبل.

الثالث، هو عولمة الثقافة. ربما كانت عولمة السلع قديمة، ولكننا نشهد اليوم عولمة المنتجات الثقافية ونماذج العيش وأساليب الحياة التي تغزو المرء في بيته، عبر الشاشة أو عبر الصحائف الإلكترونية.

وهكذا، فالعالم الذي ننخرط فيه اليوم، أكثر تعقيداً وتشابكاً والتباساً مما نحسب بنظرياتنا وأفكارنا وتصنيفاتنا، التي تتهاوى أمام التحديات والتحولات أو أمام الانهيارات والتراجعات.

فالعالم متشابه حضارياً من حيث تقنياته وأدواته أو من حيث وسائله وسلعه، وربما من حيث مشكلاته وآفاته، ولكنه متعدد ومركب، بقدر ما هو مختلف ومتعارض، وسيبقى كذلك على الصعد اللغوية والقومية أو الثقافية والرمزية.

نحن في مركب واحد إزاء التحديات الجسيمة والاستحقاقات المصيرية التي تواجهها البشرية جمعاء، في عصر الإرهاب المعولم.

ولذا لم تعد تجدي المعالجات بالعقليات والمفاهيم القديمة أو السائدة، إذ هي لا تنتج من قبل اللاعبين على المسرح العالمي، سوى التخبط والتورط والتواطؤ.

والخروج من المأزق يقتضي بناء مفاهيم جديدة للمشترك البشري، تكسر عقلية التملك والقبض، وتفتح آفاقاً تتيح إقامة علاقات بين البشر، قائمة على التواصل والتبادل والتفاعل المثمر والبنّاء.