فقد لبنان، تباعاً، عدداً من كبار أدبائه وكتابه ومثقفيه، كان آخرهم الشاعر سعيد عقل. وسعيد عقل لا يحتاج إلى ألقاب، إذ يكفي أن يحضر اسمه حتى تقفز إلى ذهن السامع جملة من المعاني، منسوجة من مفردات الخلق والتفرد أو الاعتداد والكبرياء والعنفوان وعشق لبنان.
عرفت سعيد عقل، وأنا طالب في دار المعلمين والمعلمات، في بداية الستينيات من القرن المنصرم، حيث كان يدرس الأدب العربي، وكان يومئذ شاعراً مشهوراً ومثقفاً لامعاً، يتحلق حوله الطلاب في الردهات، لكي يستمعوا إلى آرائه المثيرة أو الصادمة، في غير مجال، لاسيما في مسائل اللغة والهوية أو العروبة والوطنية.
ثم مضى دهر لم ألتق بسعيد عقل، إلى أن أصبحت كاتباً، لي نتاج يقرأه الكبار والراسخون أمثال سعيد عقل. فقد أتى، ذات مرة، إلى مقهى باريس حيث اعتدت أن أجلس، بعد أن قرأ مقالة لي أعجبته.
فوجدني مع صديقين أحدهما شاعر والآخر مفكر، ثم جرى الحديث الذي افتتحه هو نفسه، لكي يتناول مسائل كثيرة، أخصها مسألة الهوية التي كانت مثار خلاف بين أصحاب الأيديولوجية اللبنانية التي يتزعمها سعيد عقل، وأصحاب الأيديولوجية القومية والعروبية التي كان يأخذ بها نصف اللبنانيين على الأقل.
وقد احتدم الجدال بين الأستاذ سعيد وبين الصديقين، ولكن لا يمكن لأحد أن ينتصر في حضرة سعيد عقل، سواء بحق أو بغير حق. ولما كنت أنا ساكتاً لم أتدخل في المناقشة الحامية، قال لي شاعرنا: أنت حكيم.
ولكني عقبت على ذلك بقولي له: أنا أميز بين العروبة والعربية، فالعروبة هي أيديولوجية قومية وسياسة وحدوية، أما العربية فهي لغة وثقافة، وإذا كنت أنت ضد العروبة فإنك عربي بامتياز، كيف لا وأنت من شعرائها الأفذاذ! عندها دفعته نرجسيته إلى الاعتراف بأن شاعر العروبة الكبير، الراحل سليمان العيسى، كان يقول: كلّما صاغ سعيد عقل قصيدة جديدة، تقفز معه اللغة العربية قفزة جديدة إلى الأمام.
بعد ذلك توطدت علاقتي بسعيد عقل، الذي شاء أن يفتتح بي جائزته التي سمّاها «الكلمة/ الملكة»، جرّاء فكرة أعجبته في إحدى مقالاتي، فاعتبرت أن هذه الجائزة الرمزية تعادل ألفاً من شهادات بعض النقّاد.
لن أضيف جديداً بالحديث عن سعيد عقل الشاعر المبدع والمبتكر لما هو غير مألوف ومسبوق، فقد خلق هذا اللبناني عالماً شعرياً وفكرياً بلغته ومفرداته، بتراكيبه وصيغه، برمزيته وإيحاءاته، بطقوسه ومناخاته.
ولعلّ سعيد عقل هو الشاعر الوحيد الذي انفرد عن سواه، ولا شاعر إلا وهو متفرد، كونه ألف على نحو مدهش ورائع، بين إبداعات الصائغ والنحات أو المعماري والرسام، فجاء شعره غاية في السبك والنحت أو في الصوغ والتركيب أو في الهندسة والبناء. ونثره لا يقلّ عن شعره إبداعاً وفناً، هو شعره بالذات، ولكن من غير الوزن والإيقاع.
من هنا كانت لسعيد عقل بصمته على خريطة الشعر، بقدر ما شكل نتاجه نقلة نوعية تركت أثرها في من أتوا بعده من الشعراء ومن عشاق الفن والجمال. فكيف إذا غنّت قصائده أيقونات الغناء كفيروز وصباح وماجدة الرومي! بذلك ازداد شعره جمالاً على جمال.
كان سعيد عقل متعدد الوجوه والأنشطة والمهام؛ هو شاعر مبدع، ولكنه أيضاً صاحب مشروع فكري هدفه «عملقة» لبنان، أي جعله على مقاسه هو ومثاله، وكما كان يرى إلى نفسه. وهذا المشروع الذي شكل هاجسه الدائم، قد تم على حساب حياته الخاصة والحميمة. وهكذا مارس سعيد عقل حضوره المدوي وسط المشهد، على الجبهتين، الثقافية والسياسية.
فكان الأديب المبدع شعراً ونثراً، وكان المثقف والمنظّر والمبشّر، أي صاحب القضية والمهمّة، في ما يخصّ هوية لبنان ومزاياه ودوره. وكانت آراؤه ومواقفه في هذا الخصوص، مثار جدال أو استنكار، ولا سيما تلك التي حمل فيها على العرب، ولكن بلغة الأعراب، وهنا وجه المفارقة.
هناك وجه ثالث لسعيد عقل، وهو أنه «ابن معرفة» كما كان يصف نفسه. تجلى ذلك في ثقافته الغنية والموسوعية، وفي معلوماته الدقيقة في أكثر من حقل ومجال. تشهد على ذلك محاضراته الجامعية، وندواته التلفزيونية، ومقالاته في الصحافة اليومية، حول مختلف الشؤون والشجون، وأخصها المشكلات والآفات التي يعاني منها لبنان.
ربما غالى الشاعر الكبير في حب لبنان، كما غالى في حب نفسه حتى التأله، فكان آية من آيات لبنان الكبرى التي صنعت له أسطورته ومجده. وهذه الميزة أو العلّة هي من شيم المثقفين على اختلاف اتجاهاتهم، إذ هم يتعلقون بالأشياء حتى أضدادها بقدر ما يقدسونها، أو بقدر ما يغرقون في تهويماتهم النرجسية ومشاريعهم الطوباوية.
ولكن ما جرى في لبنان أعطى بعض المصداقية لسعيد عقل، أعني أن خصومه في القضية والعقيدة، من قوميين وعروبيين، عادوا إلى موقفه بطرحهم شعار «لبنان أولاً». طبعاً لا عودة إلى الوراء، إلى الأفكار المفضية إلى التطرف والإقصاء والعنف ولو بشكله الرمزي، وإنما هي عودة للتعلق بوطن أصبحنا على وشك فقدانه.
أياً يكن، فسعيد عقل جسد الحلم اللبناني، بقدر ما أنشأ مدرسة في الشعر ومؤسسة للمعرفة.