لا يخفى على أحد أن دول الخليج العربي تقود اليوم العالم العربي في كثير من المجالات، ولعل ما يميز قيادتها هو أنها واضحة وصريحة في توجهاتها تجاه ما يدور من حولها من تطورات تؤثر على أمنها واستقرارها.
ولعل حربها على الإرهاب توضح بجلاء قيادة دول الخليج العربي لتلك المساعي، ولكن الأمر الأبرز هذه الأيام هو قيادتها لحال النفط العالمي، فقد استطاعت دول الخليج الرئيسية المنتجة للنفط، أن تقول لا للضغوط المختلفة من داخل وخارج منظمة أوبك، من أجل تصحيح حال تراجع أسعار النفط والتقليل من حجم الإنتاج النفطي للتأثير على الأسعار.
وهناك من يؤيد تلك الخطوة، وهناك من يعارضها، وهناك من يقف في المنتصف.
ونحن كمحللين سياسيين لا نستطيع إلا أن نتوقف عند التداعيات السياسية لمثل تلك الخطوة، فالنفط هو المصدر الرئيس لدول الخليج العربي والشريان الذي يمد اقتصادياتها بروح الحياة، فكل قرار حول النفط تكون له تداعيات مباشرة أو غير مباشرة على حياة الإنسان الخليجي بشكل خاص.
لذلك فإن تحليلنا للأبعاد السياسية لمثل هذا القرار، يأخذنا إلى مجموعة من التداعيات السياسية التي لا بد أن تؤثر على دول الخليج العربي.
أول هذه التداعيات هو ارتفاع رصيد دول الخليج العربي المنتجة للنفط كلاعب أساسي في السياسة الدولية، مما يجعل العديد من الدول تعطي دول الخليج أهمية ووزناً في التعامل معها.
وعليه تصبح دول الخليج فاعلاً مؤثراً تعمل له الدول الأخرى حساباً ولا تتجاهله في سبيل تحقيق مصالحها. فالدول الخليجية المنتجة للنفط كتلة سياسية واقتصادية هامة ومؤثرة في السياسة الدولية، ومن يريد أن يعزز قدراته فعليه أن يتقرب لدول الخليج ولا يعاديها.
ثاني هذه التداعيات هو أن تراجع أسعار النفط عن مستوى الستين دولاراً أميركياً، من شأنه أن يقلل الحماس في السعي الغربي ولا سيما الأميركي نحو إنتاج النفط من خلال الاستثمار في مجال النفط الصخري، والذي تمكنت من خلاله الولايات المتحدة أن ترفع إنتاجها النفطي بشكل ملحوظ، وتقلل بالتالي من اعتمادها على النفط من الخارج.
تكنولوجيا إنتاج النفط الصخري ستكون بمثابة كارثة حقيقية لدول الخليج العربي المنتجة للنفط التقليدي.
ولعل أهل الخليج ما زالوا يتذكرون كارثة إنتاج اللؤلؤ الصناعي من قبل اليابان وما ألحقه من ضرر كبير بصناعة اللؤلؤ الطبيعي في دول المنطقة الخليجية. إن في الولايات المتحدة اليوم ما لا يقل عن 200 شركة متخصصة في مجال تكنولوجيا التنقيب عن النفط الصخري، الذي تقدر كلفة إنتاج البرميل الواحد منه بستين دولارا كحد أدنى، وبالتالي فإن تراجع سعر النفط عن هذا المستوى من شأنه أن يقلل الحماس لدى تلك الشركات.
لذلك نقول بأن قرار ترك السوق يُحدد سعر النفط هو قرار صائب، حتى لا تصبح عملية إنتاج النفط الصخري عملية مربحة بشكل كبير وتضر بإنتاج النفط التقليدي.
ثالث التداعيات هو الضغط على دول ذات تأثير محوري على مجريات الأحداث في المنطقة العربية. فالكل يدرك أن الدعم الروسي والإيراني لنظام بشار الأسد، هو العامل الرئيس وراء بقاء الأسد في السلطة وعدم استطاعة الأطراف الأخرى القضاء عليه.
إن تراجع أسعار النفط لمستويات لا تتحملها اقتصادات مثل تلك الدول، سيجعل الدعم الاقتصادي ـ على أقل تقدير ـ من تلك الدول لنظام الأسد مسألة صعبة. ولعل الدعم الذي تلقاه جماعات متطرفة وإرهابية من قبل دول محورية تُذكي روح الطائفية في المنطقة، سيتأثر هو أيضاً من جراء انخفاض أسعار النفط.
رابع التداعيات هو أن الضغط الاقتصادي على إيران سيفتح المجال أمامها نحو التعاون حول ملفها النووي مع الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا.
وبالتالي فإن الضغط الاقتصادي الداخلي في إيران سيفرض على القيادة الإيرانية التعاون حول ملفها النووي، والتوصل بالتالي إلى اتفاق نهائي بحلول الموعد القادم المحدد في يوليو من العام المقبل، وهو ما يمكن أن يضبط برنامج إيران النووي ويوقف طموحاتها لإنتاج السلاح النووي لوقت محدد على أقل تقدير.
وخامس تلك التداعيات هو أن الاستثمارات الخليجية في الداخل والخارج لن تشهد تزايدا خلال الفترة القادمة، كما أن حجم المدخرات سيتراجع لعدم وجود العائد الذي من شأنه أن يساعد في زيادة المدخرات. فدول الخليج ستعتمد على ما تمكنت من جنيه من أرباح خلال الفترة السابقة، لدفع برامجها الاستثمارية في الداخل والخارج للاستمرار في برامجها التنموية وتنفيذ أجندة سياساتها الخارجية.
ولكن السؤال الأبرز هو؛ إلى أي مستوى سعر تستطيع دول الخليج العربي، ولا سيما المنتجة منها، أن تتحمله من دون أن تشهد برامجها تراجعاً واضحاً؟ نحن نعلم أن دول الخليج جميعها وضعت سعراً معيناً كحد أدنى لتغطية ميزانياتها، فالسعودية وضعت الحد الأدنى عند 90 دولاراً للبرميل، الكويت 75 دولاراً، الإمارات 70 دولاراً، وقطر 65 دولاراً.
وهي أسعار قد تم تجاوزها. الأمل أن يستقر سعر النفط عند حد معقول ومطمئن للجميع، أو أن يكون هذا التراجع سحابة صيف كما كان في عام 2009، وألا يكون تراجعا مستمرا يصل بالسعر إلى مستويات تقل بكثير عن قدرة بعض الدول الخليجية على احتمالها، فالكلفة السياسية قد تكون باهظة لبعض الدول.