«رأس المال في القرن الواحد والعشرين»، هو كتاب صدر قبل عام لمؤلفه عالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكتّي.
وقد أمضى الرجل سنوات طوالاً يجمع المعطيات، وعلى مدى ثلاثة قرون، لكي يخرج بدراسة مطوّلة حول نشوء الرأسمالية، في المجتمعات الصناعية، يكشف فيها عن مأزقها وتناقضاتها في ما يخص مسألة توزيع الثروات وعلاقتها بقضية المساواة، وهي القضية المركزية التي يعالجها الكتاب.
ومن الواضح أن المؤلف يستلهم أو يستعيد، كتاب «رأس المال» لكارل ماركس. وفيه كان الفيلسوف توقع النهاية الحتمية للرأسمالية، لكي يولد من نقائضها مجتمع جديد يتحقق فيه فردوس المساواة بين الناس، كما حلم المنظّر والمبشّر الكبير بمجيء المجتمع الشيوعي.
هذا ما جعل البعض يطلق على بيكتي لقب «ماركس القرن الواحد والعشرين»، ومع أن الكتاب ليس رواية شيقة، بل بحث جاف في علم الاقتصاد، يتحدث بلغة الأرقام الدقيقة والمعادلات الرياضية، فإنه لاقى انتشاراً منقطع النظير، إذ ترجم إلى غير لغة، وبيعت منه مئات الألوف من النسخ بعد شهور من صدوره، وقد صنع الكتاب لصاحبه شهرة واسعة، وحوله إلى نجم عالمي.
في ما يخص مضمون الكتاب، وبحسب قراءتي للمقدمة والخاتمة، ولبعض ما كتب عنه، بوسعي القول إن للكتاب مزاياه من حيث المنهج والطريقة، فالمؤلف لم يقع في فخ التبسيط، بل عالج المسألة المطروحة بفكر مركب، ولذا فقد تناولها على أكثر من صعيد، اقتصادي وسياسي، اجتماعي وثقافي، تاريخي وراهن، والمؤلف يعترف بأن ما يقدمه من تحليلات واقتراحات ليست أجوبة مكتملة أو نهائية.
وإنما هي أفكار مطروحة للنقاش والتداول، للوصول إلى معالجات فعالة للمشكلات التي تثيرها دينامية رأس المال بتراكمه ونموه غير المحدود، أما الثالثة فهي نقده لعلماء الاقتصاد لكونهم ينطلقون، برأيه، من المسبقات النظرية أكثر مما يركزون على تحليل الوقائع، ولأنهم يفتقرون إلى المعرفة التاريخية بالسيرورة التي قادت المجتمعات الرأسمالية إلى ما هي عليه الآن.
وعلى صعيد الرؤية والمفهوم، ينتهي التحليل بالمؤلف إلى صوغ المعادلة الآتية: المردود الخاص لرأسمال هو أعلى بكثير من معدل نمو الإنتاج والمداخيل، أو بصيغة أخرى إن إيقاع تزايد رأس المال هو أسرع بكثير من إيقاع تزايد الإنتاج والأجور.
وصحيح أن المؤلف لا يقف مع ماركس الذي كان قد توقع النهاية الكارثية للرأسمالية إلا أن أطروحته المركزية هي ماركسية بامتياز، من حيث تأكيده على أن البنية العميقة لرأس المال، لم تتغير كثيراً، من حيث علاقتها بالمساواة، أي من حيث إنتاج التفاوت، ما دام مردود رأس المال يتجاوز دوماً معدلات الإنتاج والأجور.
إذا كان لي من تعليق فإنني أوجزه في أن الكتاب يصدر عن ادعاء كبير، فلا أعتقد أن بإمكان أي دارس أو محلل أن ينظّر لمسألة على مدى قرن كامل، في هذا الزمن المتسارع بتقلباته والمتغير بمعطياته، كما أن المؤلف لم يبتكر عدة معرفية جديدة.
لقد اشتغل على نفس المفردات التي اشتغل عليها أستاذه ماركس، كالمردود والريع أو الأسعار والأجور أو النمو والإنتاج أو السلعة والقيمة، ولكن من غير تجديد أو تطوير، كما أن بيكتي لم يأخذ بعين الاعتبار التحولات الجذرية والهائلة التي طرأت على المجتمعات البشرية على غير صعيد مع الدخول في العصر الرقمي.
وهي تحولات تتغير معها بنية الرأسمالية بقدر ما تتغير مفاهيم الملكية وأنماط الإنتاج؛ وتتغير رؤيتنا للعالم بقدر ما تتغير قيم الأشياء والأعمال والعلاقات المجتمعية وكل مفردات الوجود.