أكثر من 3.7 ملايين إنسان شارك في تظاهرة يوم الأحد الماضي في فرنسا تضامناً ضد العمليات الإرهابية التي جرت في باريس وأدت إلى مقتل العديد من الأبرياء، وجميعنا عبر بطريقته المختلفة عن رفضه لتلك العمليات، كان ذلك الحشد هو أكبر تجمع تشهده فرنسا من هذا النوع منذ تحريرها من قبضة النازية في الحرب العالمية الثانية، هذا التضامن لم يأتِ من المواطنين وحسب بل شارك في تلك التظاهرة الكبرى أكثر من 50 قائداً ومسؤولاً أجنبياً.

كانت نوايا معظمهم صادقة وإنسانية ولكن كانت نوايا البعض منهم وللأسف الشديد سياسية بحتة، فجاءت مشاركة أولئك نفاقاً سياسياً ليس أكثر، وعليه نستطيع القول إن هناك ثلاثة أصناف من المشاركات الخارجية في تظاهرة باريس من قبل ذلك الحشد من قيادات دول العالم.

الصنف الأول، جاء رافضاً للإرهاب ورافعاً راية ضرورة مواجهته بشكل جماعي، وكان محور تركيز هذا الصنف رفضه لتقييد حريات الآخرين بالعنف والتهديد والتخويف.

فحمل هؤلاء شعار «نحن شارلي»، نسبة للصحيفة الفرنسية التي تعرضت للاعتداء المباشر من الإرهابيين، وأدى إلى مقتل 12 شخصاً من موظفي الصحيفة ورجال أمن، شكل هذا الصنف قيادات الدول الأوروبية باعتبار أنها دولاً ليبرالية التوجه وتحترم حق التعبير وتعمل على صيانة حقوق الإنسان، فمشاعرها في ذلك اليوم كانت إنسانية بحق، واستشعارها للخطر لم يكن من دين أو فئة بعينها، ولم يحركها الاصطفاف الحزبي بل كانت متوحدة في ضرورة رفضها لكل ما يمكن أن يهدد القيم التي تقوم عليها تلك البلدان.

فالهجوم على مقر صحيفة شارلي وعلى متجر يهودي كان هجوماً على القيم التي تعتمد عليها تلك الدول كأساس ينظم علاقتها بشعوبها، فلم ينجرف أصحاب هذا الصنف وراء الميول السياسية للبعض الذين حاولوا إلصاق التُهم بالآخرين لتحقيق أهداف أجنداتهم السياسية.

والصنف الثاني، جاء ليدافع عن نقاء الإسلام وليعبر عن رفضه لما قام به مثل أولئك الإرهابيين، فهؤلاء الإرهابيون حملوا وللأسف راية الإسلام وعبروا من خلالها عن ما يريدون إيصاله للآخرين، هذا الصنف الثاني كانت مشاركته ضرورية لأن هناك الكثير في أوروبا على وجه الخصوص من يتربص بالإسلام والمسلمين ويعمل على إبراز زلات بعض المسلمين لوسم الإسلام بها.

هذا الصنف جاء ليقول للعالم إننا بريئون مما فعله مثل هؤلاء الإرهابين وأن عملهم لا يمت لنا ولا للإسلام الذي يدين به ما يزيد على المليار والنصف إنسان بشيء.

هذا الصنف كان دائماً ضد مثل تلك الجماعات بل ويحاربها، لذلك فإن مشاركته كانت دليلاً واضحاً على توجهه ضد أعمال مثل هذه الجماعات، ولكن هذا الصنف حمل أيضاً مطلب ضرورة احترام الأديان والرموز الدينية، فلا يجوز أن يتم الاعتداء على أديان الآخرين لأن ذلك من شأنه أن يولد الاحتقان الذي يأخذ إلى مثل هذه الأعمال، والحق يقال إن مشاركة هذا الصنف كانت ضعيفة، حيث كان من المفترض أن تمثله قيادات إسلامية أكبر مما كان عليه حجم المشاركة في التظاهرة.

فمشاركة هؤلاء ذات بعد إنساني وسياسي، فإنسانياً هم ضد الاعتداء على الإنسان، وسياسياً هم أكثر المتضررين من صراع المصالح والأديان والمذاهب والعنف القائم لأن المنطقة الإسلامية وفي مقدمتها منطقة الشرق الأوسط تسبح على دماء بريئة تُزهق باسم تلك الصراعات.

أما الصنف الثالث، فهو الذي جاء إلى فرنسا وشارك في تظاهرتها الكبرى ضد الإرهاب ليس قناعةً برفضه للإرهاب وإنما إيماناً منه بأن هناك مصالح سياسية يود تحقيقها من جراء تلك المشاركة.

فهناك دول شاركت في التظاهرة ولا يمكن أن تحمل شعار «أنا شارلي»، لأنها وبكل بساطة هي ذاتها تقمع حرية الصحافة والإعلام في بلادها لصالح أجندات تتماشى مع مصالح الطبقة الحاكمة فيها، والقضايا في تلك البلدان ضد المساس بحرية التعبير كثيرة جداً، ومن يريد معرفة ذلك عليه أن يرى مؤشر حرية الصحافة الصادر عن مراسلين بلا حدود ليرى التضاد الواضح بين الممارسة والإعلان.

وهناك من يمارس الإرهاب بشكل يومي وممنهج ضد المدنيين العزل ومن ثم يدعي أنه ضد الإرهاب ويسير في الصف الأمامي للتظاهرة الكبرى لا لشيء سوى أنه يريد أن يربط الآخرين بالإرهاب ويبرئ نفسه وممارساته منه، وبالتالي يُشرعن أعماله الإرهابية ضدهم.

وهناك من الجماعات اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تريد أن تؤكد أن المهاجرين وخاصة المسلمين هم سبب المشاكل في تلك القارة ولابد من التخلص منهم.

ومثل هذه الأعمال الإرهابية تقوي من موقفهم وتعزز من نفوذهم لتحقيق مكاسب سياسية لهم، علماً بأن موقفهم وفقاً للأرقام ضعيف جداً، حيث تثبت الدراسات الإحصائية بأن أقل من 1٪ من الأعمال الإرهابية التي حدثت في أوروبا في الفترة من 2006 وحتى 2013 كان للمسلمين صلة بها، أي أن جل الأعمال الإرهابية في أوروبا لم يكن من ورائها المسلمين.

ولكن مثل هؤلاء المتطرفين لا يريدون سماع مثل هذه الحقيقة على الإطلاق، فأصحاب هذا الصنف هم منافقون سياسيون بالدرجة الأولى، حيث إنهم يقتلون القتيل ومن ثم يمشون في جنازته !

 

أستاذ العلاقات الدولية المشارك ورئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الإمارات