تعتبر صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية من النوادر في عالم الصحافة. تتميز بنظرتها الكاريكاتيرية الساخرة للأخبار المحلية والدولية، والأمور والشخوص العامة والخاصة. فيها مجموعة من رسامي الكاريكاتير الذين يحوّلون الحوادث التاريخية والطارئة إلى مادة فكاهية وانتقادية لاذعة.

تحت عنوان حرية التعبير أو حرية الفكر أو الصحافة أو الكلمة الرأي، يلغون القيود الموجودة قانونياً وأخلاقياً. يصلون بريَشهم إلى أبعد ممكن، ويجنون من ذلك أرباحاً طائلة؛ تأتيهم من جيوب عشاق رؤية حوادث الحياة والتاريخ تمر عبر البوتقة الكاريكاتيرية المسلية والمضحكة والحاطّة للمقامات.

يبدو أن إدارة الصحيفة قد رأت في توسيع نطاق جني الأرباح، أو أنها تعاني من هبوط في مستوى الدخل من القراء أو المتابعين لمادتها الفنية الباريسية. أرادت أن تتجه إلى المس بمعتقدات الآخرين والتعريض بأقدس رموزهم الدينية والتاريخية والاجتماعية. بنفس الطريقة لم تتعرض للرموز الدينية والتاريخية الأخرى عبر الكرة الأرضية. ذلك إما احتراماً لهؤلاء الآخرين، خاصةً من قتلة الأنبياء والصالحين والمصلحين والأحرار؛ أو أن التعرض لهؤلاء لا يجلب لها الكثير من القراء وتسليط الأضواء.

اختارت تكراراً وتِباعاً الرموز الإسلامية، وخاصةً شخص الرسول الكريم، بسبب الحساسية الخاصة لدى الأتباع. أو أن إدارة الصحيفة أرادت الإدلاء بدلوها في مقارعة «الإرهاب الإسلامي»؛ حسبما بات يُعرف في وسائل الإعلام ودوائر صنع القرار في الغرب، ذوات النزعة المحمومة المنحازة.

ليست المرة الأولى التي تزج فيها الإدارة بصحيفتها في أتون مواجهة فكرية وسياسية وعسكرية حربية ساخنة شبه شاملة بين ما بات يُعرف بالإسلاميين المتشددين والغرب الليبرالي. الصور الكاريكاتيرية التي عُرضت مؤخراً مكررة وتكاد توصف بأنها ممارسة شبه روتينية عادية لديها.

كغيرها من الصحف الغربية تتمتع «شارلي إيبدو» بحماية وحصانة ودعم من الحكومات والشعوب الأوروبية. لكنها عربياً وإسلامياً وشبه دولي تواجه انتقادات تتراوح بين اللطيفة والخجولة والمتوسطة والحادة.

توصف بأنها تستفز مشاعر مئات ملايين المسلمين، وغير المسلمين، عبر العالم. الرموز الدينية الكبرى، وحتى الصغرى، خط أحمر يجب على العالِم والغافل والجاهل أن يعوا خطورة المس بها. لا يقبل أحد أتباع كونفوشيوس أو بوذا أو السيد المسيح أو النبي موسى أو الحبر الأعظم أن تُمسّ شخصية مقدسة دينياً برسم كاريكاتيري ساخر، وإن حصل فإن على الصحيفة الاعتذار عن ذلك.

مثلها مثل بقية المجتمعات الأخرى فإن نسبة التطرف في المجتمع الإسلامي قليلة، وتكاد تكون الأقل بين أهل العقائد الأخرى. هنالك مئات الملايين من المسلمين ممن لا يمكن وضعهم في بقعة واحدة وضبطهم بحيث لا يأتي أحدهم بعمل عنيف ضد صحيفة شارلي إيبدو؛ أو غيرها من وسائل الإعلام التي قد تجنح إلى تصوير النبي الكريم بأشكال لا تليق به ولا بأتباعه. هذا ليس دفاعاً عن الذين هاجموا مقر الصحيفة ولا محاماةً عن شيطان الإرهاب.

ثم هنالك كفّان للإرهاب عادةً ما يصفّقان؛ أولهما الكف المتمثل بالسياسة الغربية المنحازة والثاني هو كف الشعوب المكتوية بنار تلك السياسة. المسلمون عموماً، وبشكل شبه مطلق، ينظرون إلى الغرب على أنه منار ريادة في الحضارة والفكر والفلسفة والعلوم والفنون، وفي عموم الاتجاهات.

قليل، وقليل جداً منهم من ينظرون بشكل انتقامي حاسد حاقد أو كاره للغرب. ما يطلق عليه البعض مصطلح إرهاب يحسبه الآخر دفاعاً مشروعاً عن النفس ورد فعل لفعل أو قول مسبق؛ أو تصفية حساب لا مفر من الولوج فيه.

آن الأوان لأن تتقدم القيادات العالمية، وخاصة ذوات الشأن والأمر والنهي، أن تتقدم بخطوات حقيقية وفاعلة وواقعية وغير منحازة نحو مكافحة التطرف والإرهاب؛ والفعل ورد الفعل ومن كافة الأطراف. قيادات العالم وقفت وتقف إلى جانب «شارلي إيبدو» في مصابها الجلل إثر الاعتداء الإرهابي عليها.

على صدر وجبهة كل منها كتبت عبارة «كلنا شارلي إيبدو». لكنها فوجئت في اليوم التالي بأن إدارة الصحيفة قررت تعميم نشر الصور الاستفزازية، وبما أمكنها من لغات العالم المختلفة. الضحية هي نفسها وهي المجموعة الإسلامية بما تتمتع به من اعتقاد ودين وحضارة وتاريخ وثقافة واتساع ديمغرافي، لها طابعها الخاص المميَّز. ذلك بدلاً من ضبط النفس والبحث في الأسباب الحقيقية والواقعية التي تؤدي إلى وقوع مثل هكذا حوادث عنف نشاز مستنكَرة؛ حقيقةً، الجنس البشري بغنى دائم عنها.