لا مبالغة في القول بأن الحدث الأبرز، في الأيام الفائتة، كان سعودياً بامتياز، على مختلف المستويات العربية والإقليمية والدولية، كما تمثّل ذلك في رحيل الملك عبد الله بن عبد العزيز وفي تنصيب أخيه الأمير سلمان، ولي العهد، ملكاً على السعودية.
ولا عجب أن تتقاطر الوفود من الخارج، قادة دول ورؤساء حكومات وشخصيات سياسية، من مختلف البلدان، لتقديم التعازي بالراحل الكبير والتهاني بالملك الجديد، فذلك يدلّ على المكانة المعتبرة التي باتت تحتلها المملكة العربية السعودية، كدولة غنية وقادرة، تمارس فاعليتها وحضورها في العالم العربي وفي العالم أجمع، في مختلف القضايا والشؤون، من إدارة الثروة النفطية الى دعم غير دولة في أزماتها المالية، ومن الإصلاح في مؤسسات الدولة وأجهزة الحكم الى مشاريع البناء وأعمال التطوير والإنماء، ومن محاربة الإرهاب الى حوار الأديان والحضارات، وكلّها قضايا كان فيها للملك الراحل إنجازات يُعتد بها، هو الذي أسهم في فتح الأبواب الواسعة أمام السعودية لتمارس دورها الفعال وهويتها العابرة على المسرح العالمي.
وإذا كان الملك عبد الله يوصف بأنه محافظ وشديد البأس، فإنه أثبت عندما تسلّم الحكم، أنه رجل إصلاح وانفتاح يعمل بمنطق الشراكة والتسوية والمصالحة. هذا ما تشهد به مواقفه في ما يخصّ الشأن العربي، إذ كان حريصاً كل الحرص على جمع الكلمة وتغليب لغة الحوار والاتفاق على منطق العداء والصراع، مما كان يحمله، في أحيان كثيرة، على التنازل لما فيه مصلحة العمل العربي المشترك، في عالم عربي تطغى فيه الأنانية والنرجسية لدى الساسة كما يعبر عنها شعار: أنا أو لا أحد.
من المسائل التي لفتت نظر العالم أن انتقال السلطة من السلف الى الخلف، قد تمّ بطريقة هادئة وسلسة، وفقاً لما هو سائد ومتفق عليه من التقاليد والقواعد. وذلك على عكس ما هوّل بعض الذين تحدّثوا عن انفجار الخلاف بين الأجنحة والبيوتات في الأسرة الحاكمة. ولا يعني ذلك أنه لا وجود لخلافات في وجهات النظر أو لتنافس على المواقع والمناصب، ولو انعدم ذلك لكان دليلاً على الوحدانية والاستبداد بالحكم. ومما يحمد للسعودية التي لا تطنطن بشعار الديمقراطية، أنها تحسن إدارة الاختلافات وصوغ التسويات بصورة سلمية ومتوازنة، بعيداً عن منطق الانفراد والإقصاء.
واليوم يخلف الملك عبد الله بإنجازاته العديدة، الملك سلمان بخبراته الواسعة وهو الذي كان، على مدى عقود، أميراً للعاصمة، والذي عايش كل الذين تعاقبوا على حكم السعودية منذ تأسيسها على يد والده الملك عبد العزيز. وإذا كان للمملكة خطّها العريض الذي لا يتغير كثيراً على المستوى الاستراتيجي، فإن لكل حاكم أو قائد نهجه وأسلوبه.
وسيعرف مدى التغيير الذي ينتهجه الملك الجديد، من اختياره لمستشاريه وفريق عمله، ومن تشكيله لحكومته وما تضعه من خطط وبرامج. وأياً كان الأمر، فالسعودية تواجه اليوم ملفات شائكة وتحديات جسيمة.
من هنا المسؤولية الكبرى التي تقع عليها، هي التي تلعب دور القطب والمرجع واللاعب الكبير في عالم عربي غارق في الفوضى والعنف، ولا سيما في بلدان المشرق التي تجاور المملكة أو تحيط بها. من هنا فمن يقود السعودية يجد نفسه في مواجهة تحديات كبيرة، في الداخل وعلى مستوى الإقليم أو العالم: التنين الإرهابي، والمحور الإيراني، والراعي الأميركي.
وتهديد الإرهاب ليس جديدا على المملكة، فقد تعرضت للكثير من الهجمات والمحاولات الإرهابية على مدى السنوات الماضية. أضف إلى ذلك الوضع الملتبس والإشكالي للظاهرة الإرهابية، كما تمثل في التنظيمات الجهادية السنية التي تلقى، بالرغم من إعلان الإسلام الرسمي محاربتها، التعاطف من جانب فئات واسعة في العالم العربي، تجد أن معظم الدول والقوى تهادن الإرهاب المقنع، أو تتواطأ معه، كما يتمثل ذلك في المحور الذي تقوده إيران ومن يؤيدها أو يلتحق بها، مذهبياً أو سياسياً، من الأنظمة والجماعات والميليشيات.
والنظام الإيراني لا يقلّ خطراً عن التنين الإرهابي، ليس فقط لأن له مطامعه التوسعية، بل أيضاً لأنه يلعب بأوراق داخل المشرق العربي، على نحوٍ يؤدي الى زعزعته وتفكيك دوله وتمزيق مجتمعاته، لإعادة تشكيل خارطته الطائفية والسياسية، كما تشهد الحروب الأهلية في سوريا والعراق واليمن، ولا أنسى لبنان.
هذا ملف كبير أمام الملك سلمان بن عبد العزيز، ومعه قادة دول الخليج، وما حصل في صنعاء بعد استيلاء الحوثيين عليها، يدلّ على أن السياسة التي اتبعوها في معالجة الأزمة اليمنية تحتاج الى إعادة نظر، بعد أن كاد الهلال الشيعي يتحول الى طوق إيراني. بالنسبة للعلاقة مع الولايات المتحدة، هناك أيضاً ما يمكن إعادة النظر فيه.
فأميركا دولة تغير استراتيجيتها وفقاً لما تعتبره مصالحها بالدرجة الأولى. وها هي تكاد تبيع حقبة من التحالف مع السعودية، لمصلحة شريك جديد تأمل منه خيراً، كما أملت من قبل خيراً من المنظمات الإرهابية، وكانت الحصيلة كل هذه الآفات والشرور.
ومن الطبيعي والمنطقي أن تفكر السعودية ودول الخليج، في رسم استراتيجية جديدة للتعامل مع الحليف الأميركي، الذي يغيّر ويبدّل سياسته من النقيض الى النقيض، ساعة يشاء.