هل كنا ننتظر تصريح المسؤول الإيراني، علي يونسي، حول قيام الإمبراطورية الإيرانية وعاصمتها بغداد، لكي ندرك طبيعة المشروع الإيراني وخطورة الدور الذي يمارسه أصحاب هذا المشروع في العالم العربي؟
من فوجئ بالتصريح إما منافق وإما جاهل أو غافل. فأرباب النظام القائم في طهران، من ساسة مسؤولين وقادة عسكريين، لا يتوقفون عن التصريح، وبكل صفاقة، عن أهدافهم المشبوهة وخططهم الملغومة، من وراء تدخلاتهم في هذا البلد العربي أو ذاك. والأمثلة فاضحة، من تأكيدهم على أن حدود إيران تبدأ في طهران وتنتهي عند شواطئ لبنان، إلى اعتبارهم سوريا بمثابة محافظة إيرانية جديدة..
ومن اعترافهم بأنهم هم الذين حالوا دون سقوط نظام دمشق الرسمي، إلى تباهيهم بأن هناك أربعة عواصم عربية باتت واقعة في منطقة نفوذهم. وكلها أقوال تفضح الدافع القومي الذي هو المحرّك الأصلي للمشروع الإيراني، من وراء الدعوة الدينية والكليشيهات الإيديولوجية.
وما تصريح يونسي، إلا تتويج للمسار الإيراني بالتدخل في شؤون البلاد العربية، على كل المستويات العسكرية والاقتصادية والثقافية. ما يعنيه التصريح أن إيران نجحت في مهمتها بتفكيك دول المشرق العربي وتغيير خارطتها السكانية، لتصبح جزءاً من الإمبراطورية المزعومة. وليستفق من غفلتهم أولئك العرب الذين كانوا يعدّون أنفسهم بمثابة حلفاء للمحور الإيراني، فإذا بحليفهم يعاملهم بوصفهم رعايا وتابعين، أو مجرد وكلاء.
وها هو المندوب السامي النجم الإيراني على المسرح العربي، الجنرال سليماني، يصدّق على تصريح يونسي ويكذِّب النفي الذي صدر عن السفارة الإيرانية في بيروت، بقوله إن لبنان والعراق أصبحا خاضعين لإرادة إيراني وأفكارها. كل ذلك يشهد على أن العلاقة بين إيران والعرب لا تمتّ، في عمقها وحقيقتها، للشعارات المرفوعة حول دعم المقاومة الفلسطينية أو حول الوحدة الإسلامية. ما حدث ويحدث، ما أُعلن ويعلن، هو على العكس بالتمام:
تفكيك بعض البلدان العربية باسم الوحدة الإسلامية، وتدمير بعضها الآخر باسم المقاومة. وأساس ذلك أن ما يتحكّم بالعلاقة بين الطرفين ليس العقل أو المصلحة أو الواقعية السياسية، ولا المعاملة بالمثل. والمفارقة في الأمر أن هؤلاء أمة عريقة صنعت واحدة من أكبر الحضارات القديمة، وقد أقاموا إمبراطورية كان لها دورها الفاعل على مسرح العالم القديم لقرون طوال.
بينما كان العرب قبائل متفرقة ومتحاربة. ومع ذلك، فإنهم استطاعوا، بعد خروجهم بمشروعهم الديني، تقويض هذه الإمبراطورية، لكي يقيموا إمبراطورية جديدة ويتصدروا بدورهم واجهة العمل الحضاري. هذا الانقلاب التاريخي الذي قلب المعادلة وغير الأدوار لم يستطع العقل الإيراني هضمه أو استيعابه، لا في الماضي ولا اليوم. ولذا شكل جرحاً نازفاً في الذاكرة لم يمح ولم يندمل.
ما جعل علاقة الإيراني بالعربي علاقة ملتبسة متوترة، تتراوح بين الكره والإحساس بالمرارة، بين التعالي على العربي وبين عدم الانفكاك عنه، لأن الإيراني حتى عندما قام بثورته الحديثة، فإنه أعطاها عنواناً مصدره عربي، هو الإسلام.
وتلك هي المفارقة التي تجعل الإيراني يزايد على العربي بقدر ما يحاربه بسلاحه. وهذا ما يفعله أكثر الشعوب المسلمة وغير العربية. من مفاعيل الذاكرة الموتورة، أيضاً، أن الإيرانيين لا يحبون استخدام اللغة العربية ولو كانوا يتقنونها.
هذا مع أن الخميني لدى تسلّمه مقاليد الحكم أمر بتدريس اللغة العربية التي أعطت مفعولها العكسي، انتشاراً كاسحاً للعربية. كل ذلك جعل الإيراني يتصرف بحساسية بالغة إزاء اللغة العربية. فهو عندما يتحدث عن الدول العربية يستبعد الصفة العربية، ويستخدم بدلاً منها عبارة «دول الجوار» أو مصطلح «منطقة الشرق الأوسط»..
وهذا المحو للصفة العربية أكّده كلام يونسي الذي تحدث عن «شعوب المنطقة»، بوصفها جزءاً من الإمبراطورية الإيرانية، ممارساً محواً مضاعفاً، عِرقاً ولغةً. عندما يتحدث الإيرانيون عن حزب الله يصفونه بالمعجزة، بالطبع لأنه صنيعتهم. ولكن أين هو وجه الإعجاز؟!
بالنسبة للعرب ما صنعته إيران هو أحزاب وميليشيات تسهم في تخريب البلدان العربية. أما بالنسبة لإيران نفسها، فقد قبض على الأمر فيها رجال الدين لكي يصنعوا دولة فاشلة، سواء من حيث نظام الحكم، أو من حيث نموذج النمو، أو من حيث النمط الحضاري والمدني. فكيف يمكن لدولة عاجزة أن تصنع المعجزات؟! الأرجح أن ما تفعله هو هدر ثروات الشعب الإيراني من غير طائل..
واستخدام أتباعها من العرب لتمزيق الدول العربية وإغراقها في الحروب الأهلية. إن حكام إيران يفكرون بصورة مقلوبة، لأنهم يحسبون العجز معجزة والمشكلة حلاً. لقد ولّى زمن الامبراطوريات. وأعتقد أن الشعب الإيراني الذي انتفض عام 2009، لن يصبر طويلاً على نظام يهدر ثرواته، بضرب من الجنون والعبث..
فيما خزينة البلاد خاوية. وليستفق من غفلتهم أولئك المثقفون العرب الذين يطالبون بإقامة حوار مع إيران، بحيث تُبنى العلاقات بين الجانبين العربي والإيراني على التبادل المثمر والبنّاء. ولكن ذلك لن يكون ممكناً قبل انحسار الدور الإيراني، تماماً كما أنه من غير الممكن إصلاح الفكر الديني قبل هزيمة المشروع الإسلامي السياسي.