قبائل متنوعة في قرية كونية

ت + ت - الحجم الطبيعي

طرح مارشال مكلوهان مقولته حول القرية العالمية في كتابه مجرَّة جوتنبرج (1962)حيث يقول: (من المؤكد أن الاكتشافات الكهرومغناطيسية قد ساهمت في خلق المجال المتزامن في مناحي الحياة الإنسانية كافة، بشكل جعل المجتمع البشري يعيش في جو يمكن تسميته بالقرية العالمية، فنحن نعيش في مجال ضيق محدود يتناغم مع دقات الطبول القبلية).

لقد حقق التقدم التكنولوجي اليوم فرصة لربط العالم عبر الأقمار الصناعية من خلال البث التلفزيوني الفضائي ، والاتصالات الهاتفية والإنترنت بحيث صار بإمكان صياد في جنوب اليمن ، مع مزارع في سهول الرباط مع مثقف في الإسكندرية أن يشاهدوا برنامجا تبثه محطة عربية أو أوروبية أو آسيوية .

وهنا يبدو لكل معنيّ بالثقافة الوطنية/القومية وجاهة التساؤل حول الخطر الجارف مما يسميه البعض بالاستعمار الثقافي أو الإمبريالية الثقافية أو الاستعمار الإلكتروني ، ولا شك أن المخاوف في مثل هذا الحال مبررة، وخصوصاً إذا علمنا أن ما تعرضه التلفزيونات العربية من البرامج الأجنبية وتحديداً الأمريكية يكاد يطغى عليها.

فإنتاج هوليود السينمائي والتلفزيوني وهيمنتها في مجال السوق الإعلامي لا تحتاج إلى إيضاح . إن المصطلح الذي أطلقه مكلوهان بخصوص القرية العالمية صحيح إلى حد ما من حيث القدرة الهائلة والإمكانات المتاحة نحو تدفق الاتصال الدولي وتوافره، وهذا يعني كما رأى كثير من المنظرين الإعلاميين، مزيداً من الانفتاح العالمي والتفاعل بين الثقافات الإنسانية.

ورغم التنوع ووفرة وسائل الاتصال فقد أصبح توفر القنوات المحلية والقومية -التي تتنافس فيما بينها، وتنافس القنوات الأجنبية- يحول دون تفاعل الشعوب بالمستوى المأمول. فعلى سبيل المثال، فقد بات بمقدور المشاهد العربي، أن يختار بين أكثر من ألف قناة فضائية عربية مباشرة ، جميعها تتنافس في ما بينها، لاجتذاب المشاهد العربي، وتتنافس معها القنوات الفضائية الأجنبية على استقطاب المشاهد العربي.

وإذا كان بإمكان الجمهور العربي، أن يستقبل نحو مئات المحطات الفضائية بأقل تكلفة مادية ممكنة، فإن هذا الجمهور ميال إلى متابعة القنوات الفضائية العربية بسبب اللغة والثقافة المشتركة، ولذا فإن الخيارات المطروحة عربيا أمامه تتيح له مجالات الاختيار ترفيهيا وثقافيا وأيديولوجيا من قنواته الفضائية العربية العديدة، وما نفترضه هنا أن القرية العالمية ، ستعزز ما نسميه بالقبائل في القرية العالمية. وهذا يعني أن وسائل الاتصال وخصوصا القنوات الفضائية، ستؤدي إلى تعزيز الهويات القومية والخصوصية الثقافية والثقافات الشعبية.

وهناك شواهد على ذلك. فخلال القرن الماضي، كان المنظرون في المجتمع الأمريكي يعتبرون وسائل الاتصال بوتقة لصهر مكونات المجتمع ، والآن أصبح بإمكان الأقليات والعناصر الثقافية المتنوعة فيه أن تعزز ثقافتها الأصلية، والعودة إلى جذور هويتها القومية عبر وسائل الاتصال. وقد أضحى بإمكان العرب الأمريكيين متابعة البث التلفزيوني العربي من خلال محطات خاصة بهم، أو من خلال استقبال القنوات الفضائية العربية، وهذا نفسه ينطبق على الأمريكان من أصول عرقية أخرى، كالصينيين أو المكسيكيين أو غيرهم الذين يتابعون البرامج بلغاتهم الأصلية .

إذن فمثل هذا الدور الذي تلعبه وسائل الاتصال في إطار القرية العالمية، سيميل إلى تشظية المجتمعات، التي تتنوع فيها الثقافات والأعراق، بحيث يزداد التوجه نحو القوميات وتعزيز ثقافاتها وهوياتها القومية أي ان القرية العالمية ستكون قبائل متنوعة في قرية كونية .

ولعل ما نتوقعه بالنسبة للأمة العربية، وبالنسبة للقوميات الأخرى التي تتاح لها فرص اتصال مناسبة، أن تسير في اتجاه تعزيز هوياتها القومية وترسيخها وزيادة التفاعل بين شعوب القومية الواحدة ، إن ما تقدمه الآن الفضائيات العربية، وعلى الرغم من تحفظنا على أسلوب ومستوى ومضامين ما تقدمه إلا أنها تصنع الآن مناخاً مناسباً للحوار والتفاعل العربي يساهم فيه الجمهور ويبدي رأيه في قضاياه من الرباط حتى مسقط. اعتقد أن هذا يشكل تياراً يشق طريقه بين الناس بصمت، ويعزز وجود (قبيلتنا العربية) في إطار القرية العالمية بقبائلها (قومياتها) العديدة.

Email