يواجه المسؤول ـ كل مسؤول ـ مشكلة التوفيق بين ما هو «عاجل» وما هو «هام». وعادة ما يفرض «العاجل» نفسه على متخذ القرار، حيث إنه لا يقبل التأجيل أو التسويف. فإذا شب حريق فلا بد من الإسراع لمحاصرة هذا الحريق وإطفائه.
وتتعدد الحرائق ومظاهر الاحتياجات «العاجلة». فهنا إضراب للعمال في منطقة صناعية يهدد بتعريض الأمن وربما الاقتصاد للاضطراب، وهناك انقطاع للكهرباء في منطقة حساسة وسط العاصمة مما يثير غضب الصحافة والإعلام، فتقوم القيامة، وتستنفر الحكومة.
وهذه هي مشكلة «الهام»، لأنه رغم أهميته وضرورته، فإنه يقبل الانتظار، ونظراً لأنه (الهام من الأمور) يتطلب عادة إعداداً طويلًا، ولا تظهر آثاره إلا في المدة الطويلة، فإن النتيجة المترتبة على ذلك هي التأجيل المستمر لكل ما هو «هام» لحساب ما هو «عاجل». وأود في هذا المقال الإشارة إلى واحد من الأمور المهمة، مشكلة الانفجار السكاني، وهي جزء من مشكلة إنسانية كبرى تهدد العالم بأسره، وإن كان وقعها على بلد مثل مصر أكثر خطورة وقسوة.
مع الثورة الصناعية والتي بدأت في منتصف القرن الثامن عشر تزايدت قدرات الإنسان التكنولوجية مما انعكس على زيادة مطردة في أعداد البشر من ناحية وتحسن أكبر في معدلات الإنتاج والرفاهية من ناحية ثانية.
وهكذا عرف العالم تفرقة ـ لم تكن موجودة حتى منتصف القرن الثامن عشر ـ بين دول صناعية متقدمة من ناحية ودول نامية من ناحية أخرى حتى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين. ولم يقتصر الأمر على تمتع دول المجموعة الأولى بالتفوق الاقصادي نتيجة لسبقها في المجال العلمي والكنولوجي، بل ازداد الأمر خطورة بأن عرفت المجموعة الثانية تزايداً في الضغط السكاني نتيجة لاستمرار معدلات المواليد المرتفعة الموروثة.
وهكذا اتسعت الشقة بين المجموعتين، الأولى تتمتع بالعلم والتكنولوجيا مع ضبط في معدلات المواليد، والثانية وهي تفتقر إلى مسايرة التقدم العلمي والكنولوجي مع انفجار سكاني نتيجة لاستمرار معدلات المواليد بمعدلات ما قبل الثورة الصناعية، وتناقص معدلات الوفيات. ومشكلة الانفجار السكاني ليست مجرد مشكلات محلية هنا أو هناك، بل هي مشكلة عالمية تهدد البيئة التي نعيش فيها. ولكن آثارها المدمرة ستكون أكثر قسوة على العالم الثالث، وتظل المشكلة في جوهرها تحدياً أمام معظم الدول النامية خاصة في إفريقيا وآسيا.
وقد يكون من المناسب الإشارة إلى بلدين من كبرى الدول خارج أوروبا وأميركا، وحيث يمثل كل منهما تجربة ناجحة اقتصادياً، وهما: الصين والهند. هما نموذجان ناجحان في الإنجاز الاقتصادي، وهما الآن على قمة الدول المرشحة لتصبح قوة عالمية، وقد نجحا في الإنجاز الاقتصادي والعلمي. والفارق بينهما هو أن الصين حققت إنجازاً أوضح في مجال الانضباط السكاني. وكانت الهند قد ورثت قاعدة صناعية لا بأس بها من الاحتلال البريطاني والتي توسعت خلال فترة الحرب، حيث كانت الجزيرة البريطانية مشغولة بالحرب ضد ألمانيا.
وبعد الاستقلال حاولت الهند الأخذ بسياسة اقتصادية وطنية أكثر توجها للداخل، وعانت في بداية الستينيات من نقص في الإنتاج الغذائي، حيث استدعت الخبير المكسيكي تورمان بورلوج Borloug والذي أدخل عينات جديدة من بذور القمح مما ساعد على زيادة الإنتاج الزراعي، وحقق ما يعرف بالثورة الخضراء، فارتفع مستوى المعيشة بشكل كبير.
ومنذ السبعينات بدأت السياسة الاقتصادية في مزيد من الانفتاح الخارجي، وحققت الصناعة إنجازات مهمة، ومع ذلك فقد تضاعف عدد السكان من نحو 400 مليون نسمة إلى نحو 1.2 مليار نسمة في 2014 مما أدى إلى تآكل الكثير من الإنجاز الاقتصادي .
أما الصين والتي بدأت سياسة الإصلاح الاقتصادي في نهاية السبعينات مع تولي دنج شياو بينج Xiaoping السلطة في 1978 والتي تقوم على الانفتاح على العالم الخارجي والعودة إلى السوق مع حكومة مركزية قوية، فإن الصين استطاعت أن تحقق معدلات نمو بمتوسط 10% سنوياً لأكثر من 35 عاماً مما جعلها الآن مع الولايات المتحدة أكبر قوة اقتصادية. وفي مصروبعد نحو قرنين من الزمان، فقد جاوز عدد السكان التسعين مليوناً ولم تزد الرقعة الزراعية 8.5 ملايين فدان، بواقع أقل من فدان لكل عشرة أفراد.
وهو أمر يجاوز قدراتنا. ولكن مصر مؤهلة ـ أكثر من غيرها ـ لهذا العصر ولكن لابد أن يصاحب ذلك تطور مواز في العلم والتكنولوجيا، وهو ما لا يمكن أن يتحقق ونحن نعيش تحت وطأة التزايد السكاني غير المنضبط.