تشكل الوقائع مادة لا تنضب للقراءة والتأويل للوقوف على ماهيتها وجلاء حقيقتها، سواء تعلق الأمر بحادث فردي صغير كالانتحار، أو بحدث اجتماعي كبير كالحرب الضروس.
أتوقف عند حادثة شغلت العالم مؤخراً: انتحار الطيار الألماني أندرياس لوبيتز، الذي قرّر عمداً أن يهوي بالطائرة على قمم جبال الألب، في مارس المنصرم. وكانت الحصيلة مجزرة بشرية راح ضحيتها كل من كان في الطائرة وعددهم 150 راكباً.
يبدو أن هذه الحادثة تستدعي إلى الذهن هجمات سبتمبر الأميركي في عام 2001، كما أشار إلى ذلك الشاعر عبده وازن في إحدى مقالاته. وفعلاً، فأنا منذ قرأت خبر الطائرة الألمانية، قفز إلى ذهني الحدث الكبير كما تمثل في تفجير بُرجي التجارة العالمي، بواسطة الطائرتين اللتين قادهما جهاديون انتحاريون من تنظيم «القاعدة»، وكانت الضحية آلاف القتلى.
لا شك أن هناك فارقاً كبيراً بين العملين، من حيث الحجم والمفعول والهدف. فالحدث الأخير هو عمل دبّرته وخطّطت له مجموعة لها مشروعها الأيديولوجي الرامي إلى تغيير المجتمعات العربية، وربما العالم. أما الحدث الأول، فهو فعل فردي خطّط له شخص عجز عن حلّ أزمته الوجودية، فقرر مغادرة هذا العالم، ولكن ليس وحده.
ومع ذلك فأنا أعتقد أن هناك تشابهاً بين العملين من حيث الآلية والنموذج. فما أقدم عليه عناصر «القاعدة» قد شكل مثالاً لعمل انتحاري يولّد دويّه الهائل في العالم بأسره، في هذا العصر الكوكبي، عبر الشاشات المرئية التي تعمل على مدى الساعة.
وهذه الأدوات الفائقة لم تعد تكتفي بنقل الوقائع، بل تسهم في فبركتها أو استثمارها، لذا فما لا يظهر عبر الشاشة يكاد يمرّ من دون أن يترك أثره في الرأي العام. وهذه حال من ينتحر في غرفة معتمة، قد لا يذكر خبرهُ إلا في صفحة الوفيات. وبالعكس فمن ينتحر بإسقاط طائرة مكتظة بالركاب يصنع حدثاً لا تمحوه الذاكرة. ولعل لوبيتز أدرك هذه الحقيقة، فأراد أن يكون لانتحاره صداه في بلده ألمانيا وفي العالم قاطبةً.
في أي حال، ما أقدم عليه لوبيتز شكل مادة للتعليق والتحليل من جانب الكتاب والمختصّين من علماء النفس والاجتماع، وكما تجلى ذلك في فيض المقالات التي صدرت في هذا الخصوص في مختلف بلدان العالم.
فما السرّ الذي دفع الطيار الألماني إلى مثل هذا الخيار؟ هل هو شذوذ وانحراف أم عصاب واكتئاب؟ هل هو يأس من الحياة أم انتقام من المجتمع وردة فعل سلبية، عدمية، ضد العالم؟
التفسيرات كثيرة ومتضاربة. أتوقف عند الرأي الذي يرد الانتحار إلى طغيان النزعة الفردية التي يعتبرها البعض مصدر الأزمات الوجودية التي يقع فريستها الأفراد، وكما تتجسد في إحساس الواحد بانعدام المعنى، وفقدان الثقة بالنفس، والعجز عن التصدي للمشكلات التي تعترضهم. لا جدال بأن الإنسان كائن مجتمعي. فإذا ما انحرف المرء وشذّ خلقياً، أو مرض واختلّ نفسياً، فالمجتمع يحمل قدراً من المسؤولية. إذ لا سبيل للواحد أن يحيا حياة سويّة، وهو أعزل لا تشده روابط مجتمعية تتيح له أن ينسج علاقات حميمة مع الذات والآخر، في هذا الإطار أو ذاك، أسرة أو صداقة أو جماعة أو مهنة أو نقابة..
وهكذا فلا تستقيم حياة الفرد من دون وسط مجتمعي يتبادل فيه مع الآخرين علاقات الود والصداقة أو مشاعر التقدير والحب. ومن أجمل ما في التراث العربي ما جاء حول دور الصديق الذي يحتاج إليه المرء، ليفضي له بمكبوته أو لكي يساعده على تفريج همه أو حلحلة عقده، عندما يقع في ورطة أو أزمة لا يحسن الخروج منها بمفرده، كما أوضح ذلك ابن حزم في كتابه «طوق الحمامة».
وهذا البُعد الحميم أخذ يتضاءل في المجتمعات الحديثة، وخاصة الغربية، حيث الفرد يشعر بأنه مقصّر أو ملاحق أو مطارد أو محاصر أو مسحوق، بقدر ما يعامل كرصيد مصرفي وفقاً للنظرة الحسابية الصرفة، أو يتحول إلى مجرد حجر في آلة جبارة تطحنه بقوالبها وشبكاتها وأنظمة مصالحها.