تُرى، لو لم يذهب زرياب إلى قرطبة هل كان لآلة العود أن تعرف وترها الخامس؟ ولو أن فان جوخ لم يترك هولندا إلى باريس، هل كان له أن يخرج من أسر ألوانه القاتمة إلى حيث التألق والحياة لتطل علينا من رحم ريشته لوحة عباد الشمس الزاهية؟ ولو أن الشعراء العرب لم يفتنوا بالأندلس، هل كان للتاريخ العربي أن يعرف الموشحات الأندلسية؟
قد لا نجد إجابة واضحة على كل هذه الأسئلة، لكن الحقيقة التي يثبتها التاريخ أن المدن كانت ملهمةً للفنانين على مختلف أنواعهم. وكثيراً ما نقرأ في تاريخ الفن عن رحلاتهم وتنقلاتهم بحثاً عن أماكن تحتضن مواهبهم وتوفر لهم المناخ المناسب للإبداع. ويبدو أن رحلات الفنانين الباحثين عن أجواء تحفّز مواهبهم خير دليل على أن الفن لا يعرف الحدود والجغرافيا واللغة والمعتقدات، وأنه سياق تاريخي منفصل عن تاريخ الحروب والصراعات لأنه يحمل رسالته الخاصة عن العشق والجمال والخير والسعادة.
ويخبرنا التاريخ أيضاً أن لكل عصر فاتناته من المدن، التي كانت مقصداً للفنانين من كل بقاع الأرض. فمن إشبيلية إلى غرناطة وقرطاج وقرطبة، إلى البندقية وباريس والكوفة ودمشق. كل هذه المدن بقيت حية متألقة في ذاكرة التاريخ، ليس لأي سبب سوى أنها دخلت لوحات الرسامين وقصائد الشعراء وألحان المغنين، فبقيت عصية على النسيان في وقت تلاشت من الذاكرة مدن أخرى كان لها النصيب الأكبر في السياسة والاقتصاد وإدارة الأمور المادية في الحياة. فذاكرة البشرية بطبيعتها الأصيلة تحفظ الجمال وتنكر المآسي والبشاعات.
في العصر الحديث لم يكن من السهل وجود مثل هذه المدن الملهمة بسبب انشغال الناس بتلبية مستحقات حياة تسير بسرعة ترهق النفس والجسد، ولا تترك مساحة للراحة والسعادة. ولكن دبي أبت إلا أن تصنع هذه المساحة وتفتح ذراعيها لفناني العصر من مختلف الجنسيات والأعراق والتوجهات، لتكون هذه الإمارة وبكل استحقاق، واحدة من فاتنات مدن العصر ووجهة مثالية للفنانين والمبدعين الذين يأتون إليها من كل حدب وصوب.
فعندما صاغت هذه الإمارة استراتيجياتها وخططها للسنوات المقبلة راعت أن يكون للفن نصيب كبير من رؤيتها وبرامجها. فالبشرية تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى هذا التوازن ما بين تزايد ضغط الحياة وما بين الفن كمتنفس يلوذ إليه البشر للحفاظ على قيم ومعان باتت محط تهديد حقيقي في زمن أسرع من قدراتنا العادية على اللحاق به.
ولم يقتصر اهتمام دبي بالفن على المبادرات والبرامج والفعاليات التي جعلت منها عاصمة للإبداع ومقصد كل من أراد أن يعرض فنه ليعرفه العالم، بل تجاوزت كل ذلك لتكون بكل ما تمثله نموذجاً حداثياً للفن ولوحة من الجمال التي رسمتها عقول قادتها وسواعد أبنائها والمقيمين على أرضها.
فإذا كان الفن في أحد تعريفاته هو تجاوز الممكن والعادي والارتقاء إلى مستوى متميز من الإبداع، فإن دبي في النهاية هي كل ذلك.
رؤية قادتها عن مستقبلها ومستقبل مواطنيها وسعيهم الحثيث بأن تكون الأولى في كل شيء، هي رؤية فنية مبدعة. وان القدرة على النهوض والتطور بكل نواحي الحياة من اللوجستية إلى الخدماتية إلى البنية التحتية هي قدرة موهوبة تتسم بالتمكن من استلهام صور جميلة عن المستقبل ومن ثم تحقيقها بأفضل الطرق وأكثرها ابتكاراً.
وإذا كان الفن في تعريف آخر هو إضفاء لمسات من الجمال على سطح هذا الكوكب، فمعالم دبي التي بنتها لتتميز فيها عن غيرها من المدن هي واحدة من أكثر أنواع الفن التشكيلي إبهاراً. أما إذا كان الفن بتعريفه البسيط والمكثف هو تحقيق السعادة للناس، فهذه السعادة هي جوهر كل قرار وكل تشريع وكل نشاط يتم على أرض هذه الإمارة.
ليس من السهل أن تجد مدينة في العالم يقصدها الجميع، من رجال أعمال ومستثمرين ومطورين وفنانين على حد سواء. لقد كانت القاعدة المعرفية تقول: إن الفن والأعمال لا يلتقيان، وإن الحداثة قد تؤثر سلباً في الفنانين وتشوه مواهبهم الإبداعية. لكن دبي استقطبت كل أولئك وجمعتهم على أرضها في مزيج رائع يجمع بين كل متطلبات الحياة من العمل إلى الفن والإبداع والتميز. كل هذا لم يكن ليتم لولا الرؤية الموضوعية الواسعة لقيادة هذه الإمارة حول المعنى الحقيقي للتحضر..
وهو المزج بين الحداثة والأصالة والتقدم والهوية العربية الإماراتية الغنية بالقيم. وليس أكثر دلالة على هذه الحقيقة من مقولة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله: «ان الفن بجميع ألوانه وأنواعه يعكس ثقافة الشعوب وحضارتها وتاريخها كما يعكس صور الطبيعة والجمال والبيئة لأي بلد كان، فهو مرآة حقيقية لتقدم الشعوب وتحضرها وتناغم أفرادها بغض النظر عن العرق أو اللون أو الجنس.. فالفن ذوق وأخلاق وإبداع أكان شعراً أم تصويراً أم نحتاً أم رسماً أم موسيقى أم غناء».
جولة واحدة في شوارع دبي ومراكز التسوق ومحطات المترو، تجعل الإنسان يرى هذا التنوع في المدارس الفنية الموجودة على أرضها، الخط العربي، المسرح بكل أنواعه والرسومات بمختلف فلسفاتها ومدارسها. جنسيات مختلفة وثقافات متنوعة ترسم على وجه دبي ملامح الفن كما يجب أن يكون، عالمياً لا تحده حدود وملكاً للبشرية جمعاء.
اليوم وفي عصر الحداثة تتربع دبي، بكل فتنتها وجاذبيتها وأناقتها وأصالتها، على قمة العلوم والفنون والثقافة.. تفتح ذراعيها لمن يشاء أن يثبت موهبته وتهييء له المكان والأجواء والرعاية، مكملة بذلك رسالتها الإنسانية الحضارية في حفظ الجمال والإبداع على سطح هذا الكوكب.