لكل عصر أدواته الثقافية وأقنيته المستخدمة في التواصل بين أفراده، ولاشك أن العصر الذي نعيشه باتت الصورة فيه حاضرة في الكثير من المجالات، كما باتت الصورة تقف خلف الكثير من الأفكار، فضلاً عن تأثيرها المباشر أو غير المباشر في تشكيل خبراتهم وتحديد مواقفهم إزاء ما يحيط بهم من مجريات الحياة التي تبنى بدورها على أساس ما لديهم من صور، وإذا كانت الحكمة الصينية تقول «الصورة تغني عن ألف كلمة» فهي أشد ما تكون اتساقاً مع حاضرنا، ذلك أن الصور باتت تحيط بنا منذ الساعات الأولى من الصباح وحتى خلودنا إلى النوم عبر الإعلانات وفي الأسواق وأجهزة الإعلام.

كما أن الصورة في ذاتها تدعم الحقيقة، والحكمة القديمة التي تقول «من رأى ليس كمن سمع» إشارة إلى أهمية الصورة ودورها التأثيري الكبير للحد الذي جعلها بديلا عن الخبرات الشخصية التي يمر بها الفرد، كما أننا أصبحنا نكون الكثير من الأفكار عن غيرنا من خلال الصورة، فهناك الكثير من البلاد لم نزرها لكن لدينا الكثير من المعلومات عنها وعن حياة أهلها من خلال الصورة، كما أننا لم نقابل كل من نعرفهم لكن الصورة ظلت شاخصة وحاضرة في تكوين أفكارنا نحوهم، ولاشك أن التطور التكنولوجي الذي نعيشه في أقنية نقل الصورة وتداولها، ومنها وسائل التواصل الشخصي والإعلام الجديد والتي ساهمت في أن يكون الشخص ذاته منتجاً للصورة وليس متلقيا فقط لها، زاد من انتشارها، الأمر الذي جعلها بحق ثقافة تبنى عليها الخبرات والمواقف.

وأهمية الصورة تأتي من أن الدراسات العلمية أثبتت أن 98% من خبرات الإنسان عن الحياة والكون والبشر والألوان يكتسبها عن طريق حاستي السمع والبصر، و2% من خبراته يكتسبها عن طريق باقي الحواس، إلا أن ما يجب التوقف عنده أن 90% من الخبرات يكتسبها الفرد عن طريق حاسة البصر وهو ما يشير إلى أهمية الصورة كمصدر من مصادر المعرفة وتكوين فكر الفرد.

آية ذلك في الممارسات المهنية وبخاصة في المجال الإخباري، إذا كان هناك مفاضلة بين خبرين أحدهما مهم ولا تصحبه صورة والآخر أقل أهمية وتصحبه صورة فإنه يقدم على ما سواه لأن الصورة «هي الحقيقة»، كذلك تعاملات المؤسسات الصحافية مع وكالات الأنباء تكون المادة الفيلمية والصورة المصاحبة للأخبار، التي يتم تزويد المشتركين بها، من أهم معايير المفاضلة بين وكالة وأخرى، حسب ما أكده لي غير مرة العاملون في الحقل الإعلامي.

ولا تعني ثقافة الصورة القضاء على الكلمة المكتوبة أو الحد من تأثيرها غير أنها هي الداعم الحقيقي للكلمة، وقد تكون اختصارا لها في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتعد مصادر المعرفة للدرجة التي يعجز فيها الفرد عن متابعة ما يكتب أو ينشر، هنا تكون الصورة الحاضر القوي، والشاهد أن عشرات المقالات والتحليلات والآراء التي نادت بوقف الحرب الأميركية على فيتنام في الثلث الأخير من القرن الماضي دون جدوى، غير أن صورة الطفلة، التي تجري وهي عارية بعد إصابتها بحروق من فعل سلاح النابالم، كانت كفيلة بإيقاظ الضمير الإنساني والرأي العام العالمي لتتوقف الحرب في فيتنام.

كما أنه من المعلوم أن كلما كان المضمون المقدم في أي وسيلة إعلامية أقرب إلى الواقع كلما كان أكثر مصداقية لدى المتابع، وهنا تأتي الصورة التي تعكس الواقع وتعبر عنه وتتجاوزه أحيانا لتطبع في ذهن المتابع الحدث مختصرة كثيرا من الوقت والجهد، وإذا كانت ثقافة الكلمة وما تحتاجه من جهد وإعمال للعقل يحفظ لها ديمومتها وبقاءها لفترات طويلة إلا أنه من الثابت أن استخدام أكثر من حاسة في الاطلاع على مضمون ما يضمن له الاستمرار، آية ذلك أن الآثار الخالدة لمختلف الحضارات الإنسانية كانت في بدايتها صورا تعبر عن أنماط حياتهم، كما أن الصور ودلالاتها كانت الطريق إلى التعرف على كنوز تلك الحضارات.

وقد نقلت الصورة الثقافة بمعناها الاصطلاحي من برجها العاجي ونزلت بها بين الناس، فإذا كانت الكلمة هي وسيلة الثقافة لدى النخب فإن الصورة هي حيلة باقي أفراد المجتمع بمختلف مستوياتهم التعليمية وهم القطاع الأكبر المستهدف، فالنخب غالبا هم صناع الرسالة وغيرهم جمهورها، كما أن الكلمة في شكلها المجرد تخاطب العقل في حين الصورة تتجه إلى العقل والعاطفة، حيث سبقت الصورة أحيانا الكلمة. ومن يتفحص النصوص المقروءة على مدار التاريخ تجد أنها لكي تخترق عقل ووجدان القارئ اتجهت إلى رسم صور في ذهن المتلقي، كما أن الأفكار المجردة سعت إلى البحث عن صور تتقرب بها إلى المتلقي.

وفي تقديري أن المقابلة بين ثقافة الكلمة وثقافة الصورة وتأطيرهما باعتبار أنهما طرفا نقيض هو نوع من التعسف في التعامل مع المعينات الثقافية، سواء كانت صورة، أو كلمة، أو رمزا، أو لونا، أو موسيقى، أو حتى لغة الجسد لأن جميعها أثرت الثقافة الإنسانية، كما أن جميعها حفظت لنا تاريخا يمكن الرجوع إليه، غير أنه لاعتبارات تتعلق بطبيعة كل مرحلة تاريخية تقدمت إحداهما على الأخرى، والشاهد أن وسائل الإعلام المطبوعة استفادت من الصورة الفوتوغرافية وأفردت لها مساحات تفوق في كثير من الأحيان المادة التحريرية، كما أنها استفادت كذلك من الصورة المرئية المتحركة التي باتت جزءا أصيلا من مواقعها الإلكترونية تدعم مادتها التحريرية وتؤكد مصداقيتها.

إن من يملك أدوات صناعة الصورة يملك أن يلون العالم كما يشاء، ويقدم نفسه كما يشاء وكما يود أن يراه الآخرون، ليس في عالم السياسة فحسب ولكن في الفن والأزياء وتشكيل الوجدان والسلوك، لأن قوة الصورة بلونها وحركتها ومضمونها الذي يعبر عما يصل للمتابع مختصرة الزمان والمكان وعناء التحليل والاستيعاب، وهو ما يجعلنا بحاجة إلى التفكير بجد في إعادة صياغة ما لدينا من فكر وثقافة وإبداع وتاريخ عبر الصورة باعتبارها الذاكرة المرئية للشعوب، فضلاً على أن ثقافة الصورة باتت ثقافة العصر.