تعرُّض السعودية لتفجيرين إرهابيين خلال أقل من أسبوع، يكشف عن مشروع يتم التخطيط له، فهي ليست فقط عملية إرهابية عابرة، للتهديد أو إثبات الوجود. بل من الواضح، من خلال استهداف طائفة الشيعة في السعودية، أنهم يسعون إلى إحداث فتنة طائفية داخلية.

أخطر ما يهدد العالم العربي الآن، هو الطائفية. والطائفية في ذاتها ليست عملاً ينشأ من الفراغ، بل هي استخدام سياسي لمعتقد ديني. وبالتالي، يضمن السياسي الولاء والحماس في سبيل الأهداف التي يسعى إليها.

ولذلك، المنظمات الإرهابية تتجه للطائفية لأنها الأسهل في الوصول للشعوب واستقطاب الجمهور، خاصة من صغار السن الذين يغرر بهم بسهولة. ونشوء الطائفية في أساسه هو عمل سياسي. فالخلاف بين السنة والشيعة، هو في أساسه خلاف سياسي على الحكم. وحتى حينما ننظر للخلاف بين الكاثوليك والبروتستانت في المسيحية، كان خلافاً سياسياً. فالبروتستانت نشأت من داخل الكاثوليكية، وأصل تسمية البروتستانت هم المحتجون، وكانوا يحتجون على تسلط الكنيسة وصكوك الغفران.

والغريب أن التاريخ يشرح لنا كيف أن استخدام ورقة الطائفية كان لعبة سياسية، ورغم ذلك، هناك من يتورط فيها، مع أنها تنقلب على الجميع. فحرب الثلاثين عاماً في أوروبا، كانت طائفية بين الكاثوليك والبروتستانت، وبدأت بحرب صغيرة في ألمانيا في 1618 لتفتح باب جهنم على أوروبا كلها، وتستمر حروب مسعورة لثلاثين عام، قضت على ملايين البشر، فألمانيا بعد الحرب انخفض عدد سكانها من 20 مليون إلى 13 مليون، والتشيك خسرت 30 في المئة من عدد سكانها.

حرب مدمرة مهدت الطريق لمشروع الإصلاح الديني في أوروبا، ولكن الثمن كان غالياً، والتجربة كانت مريرة.

الخلاف الأيدلوجي مقبول، ويكون مبنياً على فكر سياسي، فالخلاف مثلاً بين الشيوعية والرأسمالية هو خلاف أيدلوجي، أو حتى الخلاف الذي ينشأ على مصالح معينة، فهو أمر متوقع حدوثه. لكن إقحام الدين في الخلاف السياسي هو الخطورة.

وهو يرتبط أكثر في المجتمعات الأقل تعليماً ووعياً. بينما المجتمعات الناضجة تدرك أبعاد هذا الفكر، وتحصر خلافاتها في الشأن السياسي، وتتجه إلى القنوات الدبلوماسية لحله. وهناك قانون دولي ينظم هذه الخلافات، ومرجعية للمنظمات الدولية. ولهذا، يتفرغ العالم للتنمية، وتتسابق الدول من أجل تحقيق معدلات نمو عالية. وتطور مفهوم الحروب إلى اقتصادية، ما جعلهم يتجهون إلى إنشاء تكتلات اقتصادية ضخمة لتحقيق مصالح لشعوبهم. يتعاملون مع حقائق الأمور بالواقعية السياسية، وبعقلنة السياسية وتوظيفها لمصالح الناس.

بينما يمر العالم العربي بمخاض صعب. وقد كشفت الطائفية عن وجهها البشع في العراق وسوريا ولبنان، وحتى في اليمن، كانت المحاولة لاستخدام ورقة الطائفية من قبل إيران للتغلب على الشرعية السياسية. وخطورة استخدام الطائفية في السياسة لا تقف عند حد الصراع الذي ينشأ وقتها، بل إنها تفتح الباب لحروب مستمرة تصل نيرانها إلى كل مكان، حتى إلى الأطراف التي بدأت هذا المشروع.

داعش المستفيد الأكبر من هذه الصراعات، وجهت بوصلتها نحو السعودية، باعتبارها الدولة التي تلعب دوراً قيادياً واضحاً، خاصة بعد قيادتها لعاصفة الحزم، وإيقافها لمشروع التوسع الإيراني في جنوب الجزيرة العربية.

وبغض النظر عن نظريات المؤامرة التي تربط بين إيران وهذه المنظمات الإرهابية، فإن هناك مصالح متقاطعة في مراحل معينة. ولذلك، كانت التهديدات من مسؤولين إيرانيين وقيادات داعش الإرهابية، بتهديد السعودية من الداخل. وكعادة داعش في الغباء السياسي التي أظهرته منذ بداية نشاطها، كشفت عن تورطها في هذه العمليات الإرهابية، وعن أسماء المنفذين، وهي بذلك تقدم مساعدة للسعوديين في معرفة عدوهم الحقيقي، وأن القضية ليست بوادر صراع داخلي طائفي، بل هي استهداف من قبل منظمات إرهابية خارج الحدود السعودية. لكنها تستخدم السعوديين كوقود لهذه العمليات، يحرقون وينحرقون فيها.

والسعودية دولة قوية أمنياً، ومتماسكة داخلياً، ومن الصعب خلق فوضي مماثلة لما يحدث في سوريا أو العراق. فالإرهاب ينمو في الدول الفاشلة أو الشبه فاشلة، لأن دور الحكومة المركزية مفقود، وهذا يخلق فضاء متاحاً لتوالد ونمو الحركات الإرهابية. وهي، أي السعودية، قد تعرضت إلى موجات من العمل الإرهابي منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، ولكن استطاعت أن تقلم أظفار الإرهاب.

ولذلك، كان الأمير محمد بن نايف ولي العهد وزير الداخلية السعودي حاسماً، حينما قال لأحد المواطنين المنفعلين في حادثة تفجير القديح، بأن الدولة ستبقي دولة، ولن يتم التهاون مع أي طرف يحاول أن يقوم بدور الدولة.

وهذه رسالة حاسمة لكل الأطراف، وأيضاً لمن يتربص من الخارج. قد تحدث عملية إرهابية هنا أو هناك، ولكن تظل هذه العمليات محاولات يائسة لشق الوحدة الوطنية داخل المجتمع السعودي. ومن شهد تفاعل المواطنين من كل المدن، سواء من حضر إلى القطيف، وقبل ذلك في الأحساء، أو التفاعل على مستوى الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، يدرك أن هناك بنياناً من الصعب ضعضعته.

الأزمات تجربة مهمة تمر بالأفراد والشعوب، وتكشف عن معدنها الحقيقي. وتقف السعودية وشقيقاتها دول مجلس التعاون الخليجي كمنظومة سياسية ناجحة في مواجهة تحديات صعبة، ومحيط متوتر من كل الاتجاهات.

وكما يقولون، في الأزمات تظهر الفرص، فقد وضحت في عاصفة الحزم، التلاحم الخليجي القوي، والآن، والسعوديون يواجهون العدو الشرس، وهو الإرهاب، لديهم فرصة يظهرون للعالم أنهم ليسوا مجتمع صحراء ونفط، بل قيم وأصالة وحكمة. وأن آباءهم صنعوا أكبر مشروع وحدوي في العالم العربي، وهم لن يفرطوا في هذا المنجز، بل يحققون من خلال إرادتهم المكسب، وهو تعزيز اللحمة الوطنية، وترسيخ البيت الداخلي.