منذ تسلّم البابا فرنسوا سدّة الكرسي الرسولي، في روما، وهو يفاجئ العالم والمسيحيين بآرائه وقراراته الجريئة، سواء في ما يخص سعيه إلى إصلاح الكنيسة، أو في ما يخص مواقفه من الأحداث والمجريات في العالم.
بالنسبة إلى الكنيسة لقد اعترف البابا بأنها باتت خاوية، ولذا فهي تحتاج إلى الإصلاح، لتخليصها مما أصابها من الأمراض والأعطال.
بذلك فاجأ البابا رجال الدين الذين لم يكونوا يتوقّعون مثل هذا النقد الذاتي من جانبه. وكأني به قد انقلب على سلفه البابا بندكتوس السادس عشر، الذي كان يلقب بأنه «حارس العقيدة». ففي نظر البابا الحالي، ما تحتاج إليه الكنيسة، ليس المحافظة، بل ثورة تتيح لها تجديد المعنى بكسر القوالب الجامدة والأنماط البائدة.
كذلك كان للبابا مواقفه الجريئة والمفاجئة في ما يخص المشكلات المجتمعية والمعيشية، كما تجلى ذلك في دفاعه عن المهمّشين والعاطلين والبائسين. وفي وقت تختلط فيه الأمور ما بين اليمين واليسار، يشنّ البابا أعنف الهجوم على القوى المتحكّمة في اقتصاد العالم وفي عيش الناس، حتى بات في نظر البعض اليساري الأول في العالم، بعد أن تخلّى اليسار عن مهامه وجنح نحو اليمين.
أضف إلى ذلك موقف البابا من المعضلة البيئية، هو الذي لا يتوقف عن التنبيه إلى الأخطار المحدقة بالبيئة، التي يعتبرها «البيت المشترك» للبشر. وهكذا، فما يقدم عليه البابا في غير مسألة، يعد انقلاباً لا سابق له في تاريخ الكنيسة التي توصف بأنها محافظة، تقليدية متشددة في قضايا العقيدة والإيمان.
هل يعود السبب لأن البابا فرنسوا هو ابن أميركا اللاتينية التي أنتجت غيفارا أحد رموز ثورات التحرر الوطني والاجتماعي، كما أنتجت لاهوت التحرير الذي قاده نفر من رجال الدين ضد أنظمة الطغيان في القارة اللاتينية؟!
ولكن هذه النشأة لا تكفي لتفسير مواقفه التحررية والثورية. السبب يعود برأيي إلى أن البابا هو ابن الثقافة الأوروبية ذات الطابع العقلاني والنقدي، أو العلماني والمدني. بهذا المعنى، ليس هو وارث آباء الكنيسة الذين صنعوا محاكم التفتيش في العصور الوسطى، بل وارث عصر الأنوار الأوروبي.
وبالمقارنة، نجد بأن الفارق كبير بين الدور الذي يلعبه رجال الدين بشكل عام، وبين الدور الذي يلعبه البابا في العالم، كمواطن عالمي ينشغل بالقضايا التي تستأثر باهتمام الإنسان المعاصر بصرف النظر عن أصوله وديانته، كما ينشغل بقضية الناس الذين هم الأقل حظاً من الثروة والسلطة والمكانة والمعرفة. فهو يمثل اليوم ضمير العالم، فيما نحن نمثّل الجزء المريض من العالم. فالممسكون بالسلطات الدينية يعترفون بالتقصير والخطأ، إزاء هول ما يرتكب باسم الإسلام، ولكنهم لا يقومون بأعمال المراجعة والمحاسبة، بفتح ملف العمل الديني، دعوة وممارسة.
ولذا نراهم، في مواجهة ما يحدث، يكررون ردود الفعل العقيمة والمستهلكة نفسها، إما بردّ ما نحصده من عنف وتطرف إلى التدخلات الخارجية، أو يقولون إنه بعيد كل البعد عن ثقافتنا. وهذا ما يقوله بعض المثقفين الحداثيين.
لا جدوى من القفز فوق المشكلات، كما يفعل الأكثرون. فالعلّة تكمن في ثقافتنا ومجتمعاتنا وفي مؤسساتنا، كما تتجسد في العقول الضيقة والعقليات المفخخة، في النرجسية الثقافية وفي الهويات العدوانية الموتورة.
والعلاج يقوم على عودة العقول إلى رشدها لكي تمارس بصورة فعّالة، إيجابية وبناءة، في إدارة الشؤون وتدبر الأحوال وقود المصائر.