شكل الاتفاق، في الملف النووي، بين إيران والدول الست الكبرى، حدثاً تغيرت معه المعطيات، على غير صعيد، فكيف نقرأ الحدث بدلالاته ومفاعيله الدولية والإقليمية، الإيرانية والعربية؟
لا شك أن الاتفاق يفتح صفحة جديدة بين إيران والدول الغربية، وبالأخص مع الولايات المتحدة، بعد عقود من العلاقات بين الطرفين تحكمت فيها لغة الصراع والتوتر والعداء. بذلك تتراجع مقولات الشر المحض والشيطان الأكبر والدول المارقة، وسواها من الأوصاف والتهم التي تبادلها الجانبان في حروبهما الإيديولوجية، لكي تحل محلها مفردات الحوار والمباحثة والتسوية، إن لم نقل الشراكة. هل ثمة رابح وخاسر؟
إذا صمد الاتفاق، فإنه يصب في مصلحة التيار الإصلاحي الذي يقوده الرئيس الإيراني حسن روحاني، والذي منذ تولى سدّة الرئاسة عام 2013، أكد عزمه على جعل إيران تتحدث لغة العصر وتندرج في العالم بصورة سويّة وبناءة. وكان من الطبيعي أن يبتهج، بالاتفاق، الإيرانيون المعارضون، وبالأخص دعاة المجتمع المدني، الذين يتوقون إلى كسر عزلة إيران عن المجتمع الدولي، ويأملون بمستقبل أفضل لبلدهم سواء في ما يخصّ تحسين مستوى الحياة أو احترام حقوق المواطنة وحريات التعبير، وهي مطالب عُلّقت على صليب المقاومة والممانعة والملف النووي، وسواها من الشعارات والملفات التي عادت وبالاً وخسراناً على المجتمع الإيراني في المجالات السياسية والاقتصادية والمجتمعية.
هل حصول إيران، بعد رفع العقوبات، على أرصدتها المجمدة سوف يحلّ لها أزماتها الاقتصادية والمالية؟ لا أعتقد، لأنها سوف تحصل على القليل، فيما هي تحتاج إلى الكثير، وذلك يقتضي تغييراً في طبيعة النظام القائم، فلا يشتغل أهله بهدر الثروات، بل يعملون على استثمار الموارد الهائلة التي تملكها إيران، أو على خلقها من أجل تحقيق آمال الشعب الإيراني بالنهوض والتقدم والازدهار. ولكن أن يتحدث عن النصر المحافظون من أصحاب النظام الولايتي وأتباعهم، في إيران وفي خارجها، ففي ذلك قدر من الادعاء والزيف.
لأن ما اتفق عليه يشكل هزيمة إيديولوجية للتيار المحافظ، المؤلف من تحالف الملالي والعسكر، بقدر ما يشهد على إخفاق استراتيجيته التي تأسست منذ البداية على مبدأين: تصدير العقيدة والثورة، والتعامل مع المعارضة الإيرانية ومع العالم بلغة العداء.
في المعسكر المقابل، أتى الاتفاق لمصلحة أوباما والديمقراطيين، في مواجهة الجمهوريين الذين يفكرون بمنطق القوة لا بلغة التسوية، ولذا فهم يشكلون الوجه الآخر للتيار المحافظ في إيران، كلاهما يحتاج إلى الآخر لكي يبرّر مشروعيته السياسية أو استبداده بالسلطة.
أما إسرائيل التي تأكدت من أنه لن يكون، في المدى المنظور، بوسع إيران إنتاج مفاعل نووي عسكري، فقد أعربت عن خشيتها من أن يؤدي رفع العقوبات إلى استمرار إيران في سياستها التوسعية وفي دعم المنظمات الإرهابية، هادفة من وراء ذلك إلى ممارسة سياستها المعهودة في ابتزاز أميركا للحصول على دعمها بالمال والسلاح.
هذا مع إن الاتفاق يصب في النهاية في مصلحة إسرائيل، إلا إذا كانت الدولة العبرية باتت تخشى من أن يُستغنى عنها أو أن يتضاءل دورها كجيب غربي في منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد اندلاع الحروب الأهلية العربية، التي باتت الحروب العربية الإسرائيلية بمثابة »نزهة« قياساً عليها. هل تغير إيران سياستها في العالم العربي؟ لا أعتقد. فالأنظمة الشمولية لا تتغير إلا مضطرة، أي ليس عن قناعة كما يفعل الرئيس أوباما، بل بالإكراه.
هذا ما حصل في مسألة الاتفاق النووي، حيث أكره المرشد القابض على السلطة على الموافقة عليه، كي لا يجر الدولة الإيرانية إلى الإفلاس. وها هو خامنئي يكرّر موقفه العدائي من الدول العربية، القائم على التدخل في شؤونها، بل هو يصعّد الموقف بتأكيده على أن إيران لن تتخلى عن دعم أصدقائها، في لبنان وسوريا والعراق واليمن، مضيفاً إلى اللائحة البحرين، وبالطبع فلسطين التي كانت الذريعة للتدخل والتوسع، ويا لها من صداقة تخفي أشرس وأخطر أنواع العداوة، وإلا كيف نفسر الخراب الذي أصاب الدول التي أشار إليها المرشد؟
لا يؤمل من النظام الإيراني أن يغير موقفه، إلا بعد تراجع مشروعه الايديولوجي والعسكري، للتدخل في شؤون الدول العربية. وها هي علائم ذلك بدأت تظهر حيث مني الحوثيون وحليفهم علي عبد الله صالح بالخسارة تلو الخسارة في اليمن، من جانب المقاومة الشعبية والتحالف العربي. فهل يفتح ذلك الباب لتخلي إيران عن أحلامها الإمبراطورية، لكي تقيم مع الدول العربية علاقات التبادل وحسن الجوار؟