يتسم الإنسان، كونه كائناً مركباً، بقدر كبير من التعقيد والثراء، إذ تنطوي الشخصية الواحدة على جوانب سلوكية متعددة ومتناقضة، تراوح بين المثالية والمادية، الرقة والقسوة، المسالمة والعنف، وغيرها من ثنائيات، لا يحوزها أي من البشر كاملة، ولا يفتقر إليها الآخرون تماماً، بل يراوح الجميع على مؤشر ملكيتها ما بين الواحد والمئة، فيحوز منها كل شخص ما تستبطنه طبيعته الموروثة من ناحية، وما يطمح إليه جهده المبذول في التعليم والتثقيف والتربية من ناحية أخرى.

حيث تنهض عوامل الضبط الاجتماعي (الأديان والقوانين والأعراف) برسم حدود العلاقة بين الفرد ومحيطه، غير أن عاملاً مهماً في صوغ تلك العلاقة، وما يعتريها من حب أو كراهية، انجذاب أو نفور، إنما يتعلق بالمسافة المكانية الفاصلة التي يحتاج إليها هذا الإنسان للحفاظ على فرادته شخصاً مستقلاً ومتمايزاً عما سواه.

تساعد هذه المسافة، حال توازنها، على ازدهار الشخصية الإنسانية باعتبارها جزءاً من كل اجتماعي، تنتظم حركته استناداً إلى أعراف هادية وقوانين ضابطة، يتأسس التزام الفرد بها على قاعدتي الوعي والإرادة، وينضبط بميزان الحس الأخلاقي المسؤول.

إذا ما ضاقت تلك المسافة بين الأجساد البشرية عن الحد المعقول أصبحنا في مثل عالمنا الراهن، أسرى لقانون الزحام، الذي يلتهم كل القوانين الوضعية، ويفتك بكل الأعراف المرعية، ليفرض منطقه الفوضوي، الذي يصيب المجتمعات بآفات كثيرة سلوكية ونفسية، ويدفع الشخصية الإنسانية إلى الوقوع في قبضة نوع جديد (معاصر) من البدائية، يثير أسوأ الرغبات وأدنى النزعات، كالعنف اللفظي، والتحرش الجسدي، وغيرها من أمراض، صارت تصدمنا يومياً، خصوصاً في مصر.

الحقيقة أن مصر، منذ فقدت سبقها التاريخي الباكر المؤسس على الثورة الزراعية، واستحالت قوة من الدرجة الثانية مطالع العصر الحديث، المؤسس على الثورة الصناعية، لم تكن بلداً غنياً أبداً، فلا هي حاضنة كبرى للموارد الطبيعية خصوصاً النفطية، ولا هي مالكة أساسية لزمام التكنولوجيا الصناعية، غير أنها، في الوقت نفسه، لم تكن بلداً متخلفاً، لا في الماضي حيث كانت متقدمة بالقياس إلى جوارها، ولا في الحاضر حيث اكتسبت قيماً عصرية وانتمت إلى الحداثة الثقافية، فكرياً وفنياً، واستوت لديها منذ القرن تقريباً طبقة وسطى حضرية صلبت عودها في الصراع نحو التحرر من الاستعمار الغربي، ودعمت حركتها نحو التمدن الذي نالت منه قسطاً كبيراً بحسب العديد من المؤشرات المرعية وبالقياس حتى إلى بعض البلدان الأغنى منها.

حالة التضاغط الشديدة في مصر، التي أفضت إلى انفجارات عشوائية، لم تعد قصراً على مناطق بذاتها توصف بهذا الاسم، بل امتدت إلى شتى مجالات حياتنا، فصار الناس يتحاورون صراخاً في الشوارع والطرقات وحتى في المنتديات التي كانت راقية.

ويسيرون عراكاً على أقدامهم أو حتى في السيارات التي صارت تشتبك مع المشاة والتروسيكلات والتوك التوك في فوضى عارمة لا تليق بعاصمة عريقة ولا حتى بمدينة تستحق هذا الاسم، كما يسلكون كسلاً في أماكن العمل، وفوضوياً في أماكن الترفية، ويقتاتون على ثقافة عشوائية، فينصتون إلى برامج تافهة ويشاهدون دراما سخيفة تروج للبلطجة والفهلوة، لا تعيد تمثيل حياتهم الرثة بقدر ما تغذيها.

وظني أن مجابهة ذلك التدهور لن يتحقق فقط بالتنمية الاقتصادية، على أهميتها، التي قد تحل مشكلة الفقر ولكن لا تكفى وحدها لعلاج مشكلة التراجع، التي لا يمكن مواجهتها إلا بإعادة ترتيب بيئة الحياة في مصر، وحل المشكلات المزمنة التي أصابتها بنوع من تصلب الشرايين، وعلى رأسها أزمة المرور الخانقة، التي لا تهدر وقت الناس وطاقتهم فقط، بل تصيبهم بالكآبة واليأس على نحو لا يسمح لهم بالتجاوب مع أية خطط مستقبلية للتنمية. ويلي ذلك مشكلة أطفال الشوارع وهم عنصر بالغ الخطورة على أمن البلاد واستقرارها أهلها، كما على درجة نظافتها ومستوى تمدنها أمام زائريها والمشكلة السكانية.