بالكاد جفّ حبر الاتفاق النووي الإيراني قبل أن تتسابق البلدان الأوروبية لإبرام صفقات تجارية وإعادة فتح سفاراتها في إيران. بلمح البصر تحوّل الملالي أبطالاً بعدما كانوا في الحضيض. وأصبحت روابط طهران مع الإرهابيين، ومحاولاتها إطاحة حكومات الشرق الأوسط، والتجمعات الحاشدة التي تُنظَّم لرشق الغرب بالإهانات والاتهامات - أصبحت كلها طي النسيان.
ووُضِعت على الرف المخاوف بشأن قمع إيران للأقليات، وسِجلّها السيئ جداً في مجال حقوق الإنسان، وممارستها المتكررة في رجم وقمع النساء. لم تصدر أي بيانات عن إيران تفيد بأنها مستعدة لإجراء تغييرات. على النقيض، كان موقفها ولايزال قائماً على التحدّي. لم يُطلَب منها التنديد بالإرهاب، ناهيك عن عدم توقفها عن المشاركة في الأعمال الإرهابية.
فجأةً لم تعد الجرائم الإيرانية ذات أهمية بالنسبة إلى الديمقراطيات الأوروبية؛ لقد تعمّدت هذه الدول وضع غمامات على عيونها، وهي تقف في الصف وأيديها ممدودة لقرع أبواب طهران الذهبية. لا يرون الآن سوى دولارات تلمع في البعيد.
سوف تتحوّل الجمهورية الإسلامية التي سيهبط عليها قريباً أكثر من 80 مليار دولار، إلى بقرة حلوب بالنسبة إلى أوروبا.
شعرت بخيبة أمل وحزن كبيرَين لدى رؤية بريطانيا تتهافت لإعادة فتح سفارتها في طهران بعد إغلاقها لمدة أربع سنوات عقب الهجوم الذي تعرّضت له في نوفمبر 2011.
لطالما أبديت احتراماً وتقديراً كبيرَين للمملكة المتحدة التي أعتبرها موطني الثاني، بالاستناد إلى الروابط التاريخية بينها وبين وطني الأم، والمواقف المشرّفة التي اتخذها قادة عظام على غرار رئيسَي الوزراء ونستون تشرشل ومارغريت تاتشر، الذين حافظوا على عظمة بريطانيا سياسياً وعسكرياً وصناعياً واقتصادياً.
لا أستطيع أن أتخيّل أن خلفاء تشرشل وتاتشر اللذين لايزال اسماهما محفورين في التاريخ العالمي حتى يومنا هذا، يتذلّلون أمام بلد كان بالأمس القريب عدواً لهم، فقط من أجل الحصول على حفنة من الدولارات.
كان وزير الخارجية أول مسؤول بريطاني يقوم بزيارة طهران منذ عام 2003. بطبيعة الحال، وصل برفقة وفد تجاري وانتهز الفرصة للتشديد على «الشهية الكبيرة» التي تبديها الشركات البريطانية للاستثمار في إيران فضلاً عن جهوزية المصارف البريطانية لتمويل الصفقات.
بحسب ما أوردته قناة «برس تي في» الإيرانية، استضافت إيران مؤخراً «وفداً من الوزراء الإيطاليين الذين وقّعوا مذكرة تفاهم لتمويل مشاريع في قطاعات الصناعة والإنشاءات والبنى التحتية تفوق قيمتها ثلاثة مليارات يورو».
وجاء ذلك في أعقاب زيارة قام بها وزير الاقتصاد الألماني على رأس وفد من المصنّعين، فضلاً عن زيارات من مسؤولين في حكومات النمسا وصربيا وسويسرا وأذربيجان. وتسعى إسبانيا بكل قواها لركوب القطار السريع.
علاوةً على ذلك، تلقّى الرئيس الإيراني حسن روحاني دعوة لزيارة روما «في الأسابيع المقبلة». يوماً بعد يوم، يضيف روحاني مزيداً من المواعيد إلى جدول رحلاته حيث تُفرَش له السجادة الحمراء.
فعلى إثر زيارة قام بها وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس إلى طهران يرافقه وفد من رجال الأعمال، تلقّى روحاني دعوة لزيارة قصر الإليزيه في نوفمبر المقبل. وتتحيّن روسيا والصين اللتان لطالما جمعتهما علاقات وثيقة مع طهران، الفرصة لإبرام عقود مربحة معها في مجالَي الطاقة والسلاح.
لا شك في أن الرئيس الأميركي باراك أوباما يفرك يدَيه الآن بانتظار دوره للتحرّك، بعدما تعرّض مشروعه للعرقلة من قبل مشرّعين منزعجين رفضوا تصديقه بأن هذا الاتفاق هو أفضل ما تحقّق منذ اختراع الدولاب.
لم تتغيّر إيران وعميلها اللبناني حزب الله. بيد أن أميركا ارتأت، بشكل غير مفهوم، شطب هذين الكيانَين من قائمة الإرهاب لديها على الرغم من أنهما يقاتلان لإبقاء الجزّار السوري في السلطة ويدعمان استيلاء الحوثيين على اليمن.
أعلن مسؤول إيراني واحد على الأقل بابتهاج دعم بلاده المستمر لمجموعات «المقاومة»، ما يعني فعلياً أزلام إيران وجواسيسها المسلّحين الذين يستهدفون دول الخليج العربي. من يستطيع أن يلقي اللوم على جيران إيران العرب لشعورهم بالقلق الشديد بعد اكتشاف مخبأ كبير للأسلحة مؤخراً في الكويت عائدٍ لخلية تابعة لـ«حزب الله» وكان سيتسبّب لا سمح الله بالفوضى وحمام الدماء!.
أين هي منظمة «هيومن رايتس ووتش» ومنظمة «العفو الدولية» اللتان تشيران باستمرار بأصابع الاتهام إلى الدول العربية لأنها تتخذ إجراءات لحماية شعوبها؟ لقد أصبحت هذه المنظمات مسيّسة جداً إلى درجة أنها مستعدة لإعطاء إيران صك براءة كي لا تُفسِد أجواء البهجة والصفقات.
بدأت أتساءل إذا كان الاتفاق النووي يخفي ما هو أدهى، والذي بتنا نعلمه الآن أنه يتيح لإيران إجراء تفتيش ذاتي لمجمّع بارشين العسكري المشبوه، لا سيما وأن هناك اتفاقات سرية أخرى بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، مع الإشارة إلى أن هذه الأخيرة ملزمة قانوناً بعدم الإفصاح عن مضمونها، حتى للولايات المتحدة والدول الأخرى في مجموعة خمسة زائد واحد. هل تصدّقون ذلك؟
في هذه الحالة، لا يسعنا سوى التكهّن بوجود اتفاقات سرّية أخرى بين إيران وإدارة أوباما التي أظهرت تصميماً غير مسبوق على حمل الكونغرس على الموافقة على الاتفاق..
وبذلت جهوداً دؤوبة لإقناع حلفائها المخضرمين في الشرق الأوسط بركوب الموجة، بما في ذلك من خلال توجيه دعوات إلى قادة دول الخليج لتمضية عطلة نهاية الأسبوع في كامب ديفيد. وكذلك، يحاول الرئيس أوباما، عبثاً، رشوة رئيس الوزراء الإسرائيلي بواسطة «حزمة تعويضات عسكرية» كبيرة من أجل شراء صمته.
ربما جلس شاه إيران على عرش الطاووس، لكنني على يقين من أن المرشد الأعلى الإيراني علي حسيني خامنئي يختال متباهياً مثل الطاووس هذه الأيام، وقد نفش ريشه بدفعٍ من المتملّقين الأوروبيين والمديح المتواصل من المسؤولين الأميركيين. يحصل على كل شيء مقابل لا شيء.
لاتزال البنى التحتية النووية الإيرانية على حالها، وسيستمر تخصيب اليورانيوم. ليس فتح بعض المنشآت النووية في البلاد، « باستثناء المواقع العسكرية»، أمام عمليات التفتيش لمدة عشر سنوات، سوى مجرد إزعاج بسيط لا قيمة له بالمقارنة مع المكافآت الواضحة التي قُدِّمت لإيران.
لطالما حذّرتُ مراراً وتكراراً قبل سنوات عدة من احتمال وجود «صفقة كبرى» بين الغرب وإيران، والآن تتجلّى هذه الصفقة فصولاً أمام أعيننا. أتذكّر ما قاله الرئيس أوباما بأن الاتفاق النووي قد يقود إلى تطبيع العلاقات مع إيران في المستقبل البعيد شرط أن تفي بتعهداتها. لكن ما يحدث الآن يضرب عرض الحائط بذلك الكلام الحذر.
إليكم توقّعاً آخر. القادة الغربيون الذين ينبطحون أمام القيادة الإيرانية سوف يندمون كثيراً. إنها مسألة وقت فقط قبل أن تضرب طهران، التي ازدادت ثراءً وجرأة، مصالح بلدانهم لأن أيديولوجيتها وكرهها لكل ما هو غربي ثابتان لا يتبدّلان.
لا يكفي أن يكون العالم العربي في حالة تأهب، لا سيما الجيران الأقرب إلى إيران، أي السعودية ودول الخليج، من الخطر الداهم، بل عليه أن يقرأ في كتاب دونالد ترامب وينصب جداراً منيعاً على مستوى الإمكانات العسكرية والاستخباراتية والمراقبة، من أجل إبعاد إيران ومرتزقتها وعملائها عن شواطئنا. إذا لم نتوخَّ الحذر، فإن تلهّف الدول الغربية لتدعيم اقتصاداتها الفاشلة سيُقحم بنا في مأزق كبير.