بطول الحقبة الكلاسيكية كان السؤال الفلسفي أنطولوجياً بالأساس، يدور حول الوجود، قبل أن يفرض الهم المعرفي نفسه على الفلسفة، في الحقبة الحديثة، ليدور السؤال الفلسفي حول قدرتنا على تعقل الكون وإدراك العالم وكشف أسرار الطبيعة، وهنا أخذت الفلسفة النقدية مع العظيم كانط، تتجاوز البحث التقليدي عن الوجود الحق للأشياء، وتطالب أولاً وقبل كل شيء، بفحص العقل الإنساني نفسه، باعتباره تلك الأداة أو الملكة التي يقوم الإنسان من خلالها بتحصيل المعرفة، لنتأكد من كونه أداة صالحة لها أم لا، قادرة عليها على نحو مطلق أم بشكل محدود؟ غير أن كثيرين من المهتمين بالفلسفة أو المؤرخين لها، قد استغل هذه التحول فيما بعد للقول بـ(نهاية الفلسفة)، وذلك عبر موجتين أساسيتين:
الموجة الأولى جاءت في وقت مبكر كثيرا، من قبل كارل ماركس الذي قال بتلك النهاية منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، باعتبار أن الفلسفة ليست إلا مستودع طموحات البشر الحالمين، وبفعل بلوغ المادية الجدلية محطتها النهائية، حيث يكمن المجتمع الشيوعي، الذي سيتحرر فيه الإنسان من سطوة رأس المال، ويتحرر فيه الوعي من سطوة الأحلام والأوهام، فإن الرغبة في التفلسف سوف تتوقف أو تنتهى، إذ لم يعد ما يزكي عملها كنشاط عقلي. وهنا يتبدى لنا أن ماركس قد نظر للفلسفة وكأنها مجرد أيديولوجيا تعكس (أحلام الإنسان وأوهامه) ورغبته في الخلاص من سطوة القوى المسيطرة عليه.
أما الموجة الثانية فجاءت في وقت مبكر من القرن العشرين، تحديدا في ثلاثينياته، من قبيل تيار الوضعية المنطقية، الذي طالب بدور وحيد للنشاط الفلسفي، هو العمل كخادم للعلم التجريبي، يبحث في قضاياه الكلية، ويمده بالفروض النظرية، ويختبر نتائجه العملية.
لم تقل الوضعية صراحة بنهاية الفلسفة، ولكن ما الذي تعنيه النهاية أكثر من الدفع بها إلى فقدان استقلالها الذاتي، والاكتفاء بالدوران في فلك العلم التجريبي، ومن وضع السؤال الفلسفي الذي كان يدور حول الوجود كله، بسعته ورحابته، في أنبوب اختبار التجريبية الحديثة، على ضيقه ودقته وصرامته.
وكما ولدت بعض أهم الفلسفات بعد نبوءة ماركس دليلاً على استمرار الوعي الفلسفي، فلم يطل الوقت بعد محاولة الوضعية المنطقية حتى انفجرت الفلسفة مجددا في وجه متحديها، لتنتج لنا إما فلسفات جديدة كالوجودية، وإما طبعات جديدة من تيارات فلسفية قديمة مثل الكانطية الجديدة، والهيجيلية الجديدة وغير ذلك.
بل إن الفلسفة مارست أقصى درجات مكرها عندما بنت على ما اعتبره الوضعيون المنطقيون مجالاً وحيداً لها (الفكر العلمي) تياراً جديداً سرعان ما حمل اسم (فلسفة العلم) وبالخصوص مع إسهامات رموزه الكبار في النصف الثاني من القرن العشرين من قبيل جاستون باشلار، وتوماس كون، وكارل بوبر، أولئك الذين نظّروا لمفهوم القطيعة العلمية، وحاولوا تفسير مغزى التحولات التاريخية الكبرى من منظور الطفرات المعرفية، فأضاءوا مساحات مبهمة في تاريخ العلم، بل وقدموا تعليلات عميقة لكيفية تشكل وتطور الفكر الإنساني برمته، وفي القلب منه الفكر الفلسفي، على نحو ألهم وغذى علم تاريخ الأفكار، أحد العلوم التي صارت بالغة الأهمية، والتي تفتقر إليها الثقافة العربية إلى درجة مربكة، تثير لديها تلك الإشكالية التي كان محمد عابد الجابري قد أسماها باللاتزامن الثقافي العربي، وتعني تداخل الأزمنة الثقافية معاً في العصر الواحد، من دون ترتيب منطقي، ولا تقدم تاريخي، ولعلها الإشكالية التي تفسر بعمق علاقة التقليد بالحداثة، وظواهر كالإسلام السياسي، وغيره من إشكاليات تعكس ملمح اللاتاريخية في الفكر العربي المعاصر.
على هذا النحو يتبين كيف أن الفلسفة، كنشاط جوهري منشغل بالإنسان وموقعه في الوجود لا يمكن أن تنتهي أبدا، وأن تبريرات القائلين بتلك النهاية المزعومة، هي مجرد انعكاس لقدرة العلم الحديث، على اقتناص بعض القضايا التي طالما اعتبرت قضايا فلسفية، وتم ترسيمها ضمن الفضاء الفلسفي، فإذا بها تدخل إلى الفضاء العلمي من قبيل القضايا الكوسمولوجية، حيث العلاقة مع الكون والطبيعة. لقد دخلت الفلسفة، كنشاط عقلي قديم متجدد، في صراع مع العلم التجريبي، كنشاط حديث، فلم تهزم هزيمة نكراء كما تصور البعض، ولكنها لم تخرج سليمة تماما كما يصر البعض الآخر، بل خسرت أشياء، ونالت منها كدمات.
نالت الكدمات من جل الفلاسفة المعاصرين، فأفقدتهم الشعور المغرور بالقدرة على بناء أنساق عقلية مكتملة، تفسر الوجود من ألفه إلى يائه، بدءاً من الموقف الأنطولوجي، مروراً بالمعرفي، وصولاً إلى الأخلاقي والسياسي، وتحت ضغط التقدم العلمي خصوصا في الفيزياء، والقدرة التكنولوجية على الكشف والاتصال، تنامى تواضع الفلاسفة، وتآكلت ظاهرة الفيلسوف الشامل في الفكر العالمي، بانتصاف القرن العشرين على الأقل، فلم يعد هناك من يشبه ديكارت وسبينوزا وكانط وهيجل أو ماركس، أو حتى كيركيجارد، وفي المقابل نمت ظاهرة ما يمكن أن نسميه بـ(المفكر المتفلسف) أو الفيلسوف المتخصص على شاكلة بيار بورديو، مثلاً، الذي صرف جل اهتمامه إلى معالجة قضية جزئية كالعلاقة بين وسائل الإعلام وبين الديمقراطية في المجتمع الحديث، متتبعا كيفية صناعة الشمولية (جوهريا) في قلب أكثر القوالب التي اعتبرت تجسيدا لتطور الديمقراطية السياسية. لقد صارت الفلسفة أكثر عملية وربما فائدة، ولكن الفيلسوف صار أكثر تواضعا وأقل غرورا، ولعل ذلك لا يمثل نهاية حقيقية للفلسفة، ولا هزيمة كاملة للفيلسوف، بقدر ما يعكس تطورا موضوعيا ربما مثّل جوهرا للتقدم التاريخي.. والمزيد من التخصص وتقسيم العمل.