السؤال الغائب: لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؟

ُطرح سؤال لماذا تخلفنا ولماذا تقدموا؟ مع مشروع محمد علي باشا، ثم تم تطويره على الصعيد الثقافي السياسي والقانوني الحداثي مع إسماعيل باشا، ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، وحتى النصف الأول من عقد السبعينيات من القرن العشرين، ظل جوهر السؤال واحداً، وإن تغيرت المفاهيم والمصطلحات المستخدمة في التعبير عن التخلف التاريخي والبنيوي.

أخذ الفكر المصري والعربي ينتقل من سؤال لآخر والجوهر مستمد من سؤال لماذا تقدموا؟ ولماذا تخلفنا؟ إلى أسئلة التقدم، والتخلف، والتقليد والحداثة والأصالة والمعاصرة إلى السعي لبناء نموذج حضاري مختلف، إلى مشروع أسلمة المعرفة وغيرها من الأفكار/ الموضات والمشروعات التي ارتبطت مع ثورة عوائد النفط المالية..

ولا تزال ذات الإجابات تدور حول أزمات الدين والتطور الحضاري، والتعليم، والتقنية، والنظام الاقتصادي، والقيم الاجتماعية المرتبطة بوضعية التخلف .. إلخ!

من الشيق والمثير معاً أن الفكر المصري تراجع عن طرح سؤال التقدم والتخلف منذ وثيقة المتغيرات التي أطلقها أنور السادات لمواجهة تظاهرات الحركة الطلابية الوطنية، في يناير 72-1973 التي قادها جيل السبعينيات المجيد، أحد أهم حلقات الوطنية المصرية قاطبة، والذي خرج من أعطافه أهم مفكري مصر على الساحة المصرية والعربية.

والسؤال لماذا لم يعد سؤال تخلفنا التاريخي وارداً ولا جزءاً من شواغل المفكرين ، ولا الباحثين؟

يبدو أن ذلك يعود إلى عديد الأسباب التي نذكر منها تمثيلاً لا حصراً ما يلي:-

أن مفهوم التقدم تراجع في الفكر الاجتماعي النقدي المعاصر لصالح صعود مفاهيم كالتحديث، وما بعد الثورة الصناعية الثالثة، والثورة الرقمية، وثورة المعلومات والاتصالات، والحداثة الفائقة، وما بعد الحداثة، والعولمة وثورة الألسنيات .. إلخ ..

وهذه المصطلحات والمفاهيم وغيرها تحمل في أعطافها نظريات، وتحليلات، وتطبيقات في عديد من فروع المعرفة في العلوم الاجتماعية. وظل التركيز على اللهاث وراء هذه المفاهيم الجديدة ومحاولة الانخراط في الممارسة البحثية والذهنية في إطارها بوصفها موضات فكرية وفلسفية..

ومن ثم غاب عنا السؤال الرئيس – والأسئلة المتفرعة عنه- لماذا تخلفنا؟ ولماذا تقدموا؟ أياً كانت الصياغات المفهومية الجديدة لهذا السؤال المركزي المستمر، والذي غادرناه إلى عالم من البحوث الجزئية والمتخصصة.

كما أدت سياسة الاعتماد على التمويلات الخارجية وتأثيرها على قوائم الأعمال البحثية إلى فرض موضوعات تنتمي إلى بعض الاهتمامات الخارجية، كقضايا حقوق الإنسان على أهميتها بالنسبة لنا إزاء القمع السلطوي، والمجتمعي على المرأة، وحقوق الطفل، والأقليات، وحريات التعبير والإبداع .. إلخ..

وذلك على نحو أدى إلى انشغال الآلة البحثية والأكاديمية – على ضعف وركالة وضحالة بعضها – بالتركيز في ممارساتها على هذه الموضوعات وتفضيلها، وإلى سعي بعضهم في الانخراط في دوائر المؤتمرات والندوات الإقليمية والدولية، أو ما أصبح يطلق عليه من بعضهم سياحة الندوات والمؤتمرات وورش العمل.

من الملاحظ أن إنتاج غالب هذه الآلة هي النزوع التبشيري وإعادة إنتاج المقولات الشائعة دونما طرح لأسئلة وإشكاليات وفروض بحثية جديدة يمكنها أن تنشط عمليات البحث والتفكير النقدي.

وتراجع دور بعض المثقفين لصالح دور الباحث الأكثر تخصصاً في بعض فروع العلوم الاجتماعية أو السياسية، وتركيز بعضهم على موضوعات بعينها، بالإضافة إلى تمدد دور وسلطة بعض المتخصصين في العلوم السياسية.

وسيطر الإنتاج الكتابي المرتبط بالموضوعات اللحظية، والأقرب إلى الموضة الفكرية ومشكلات اللحظة الراهنة على الموضوعات ذات البُعد التاريخي، والأسئلة المرتبطة بها.

ومن العوامل سطوة الأجهزة الإعلامية المرئية والمكتوبة والمسموعة، ومن ثم هيمنة المعالجات السريعة والمبسطة – إن لم نقل السطحية- ومعها لغة إعلامية أقرب إلى لغة الشارع أو الجمهور تجمع بين الفصحى المتدهورة والعامية الشائعة.

كما أدى موت السياسة وغياب السياسيين إلى سطوة البيروقراطيين والتكنقراط، وهؤلاء تشغلهم الأسئلة الجزئية البسيطة، ولغة الأرقام - غير الدقيقة في غالبها - والإجابات البسيطة التي ترمي إلى احتواء المشكلات ومنع اشتعالها أو إطفائها، وليس إيجاد حلول لها في إطار رؤى كلية سياسية وثقافية واجتماعية في إطار الطموح إلى تنمية متسارعة ومستدامة والجري وراء الدوائر الأكثر تطوراً في عالمنا..

وذلك في ظل الطابع المحلي للتكوين «العلمي»، والمعرفي لهذه النخب التي تدير التخلف، ومن ثم غياب العلاقة الوثيقة مع تطورات المعرفة والخبرة العلمية في دوائر الشمال، أو في آسيا الناهضة. في حين أن الأجيال التي انشغلت بسؤال لماذا تخلفنا ولماذا تقدموا؟ كانوا على صلة بما يجري في الأطر الغربية من إنجازات وثقافات، ومعرفة متخصصة!