أنهينا في الأسبوع الماضي وقفاتنا عند النهايات الكبرى: الدين والفلسفة والإيديولوجيا والحداثة والتاريخ والإنسان، تلك التي توالى إعلانها من قبل العقل الغربي عبر قرن مضى، والتي فسرنا المنطق الكامن خلفها بفلسفة المركزية الغربية، والغرور الوضعي الذي أنتج رؤية حتمية عن التاريخ تقول بالتقدم المطرد واللامحدود له، وبالقدرة على ممارسة القطيعة الجذرية مع الأنساق الكبرى التي ينطوي عليها. أما اليوم فنعلن من جانبنا عن نهاية جديدة نجد لها تبريرات أكثر صدقية بالقياس إلى كل النهايات السابقة وهي (نهاية المعنى).

لقد دار ولا يزال جدل كبير في علم الاجتماع الغربي حول «أزمة معنى»، تنبت من شعور الإنسان المعاصر بالتعاسة والتوتر رغم إشباع كل احتياجاته المادية، الضرورية والكمالية، إلى درجة لم تتحقق قطعاً في أي حقبة تاريخية سابقة.

ومن ثم يتبدى أن الأزمة مصدرها روحاني، يتمثل في الشعور بالافتقار إلى معنى كلي للحياة صار متعذراً تحت وطأة الإيقاع اللاهث للواقع اليومي، والعلاقات الاجتماعية المحايدة التي خلت من الحميمية والترابط الوجداني، لتصبح مجموعة تفاصيل متناثرة لا قصد لها. ولكن ما يدفعنا إلى القول بنهاية المعنى وليس فقط أزمته، هو أن الأزمة صارت وجودية، قادرة على وسم الإنسان بالقلق في أرقى المجتمعات وأغناها، ووصمه بالوحشية في أكثرها فقراً وتخلفاً، بفعل دوافع عدة نتوقف عند ثلاث أساسية منها:

الدافع الأول ديني، يتمثل في غياب الإيمان الروحي العميق، المرتبط بالحضور الإلهي القدسي في عالمنا، والقادر على تنمية العوالم الداخلية للإنسان من خلال ربطه رأسياً بعالم الغيب، على نحو يذكره بمآله ومصيره، ويستخرج منه أنبل ما فيه، إذ يبثه ضميراً خلقياً مريداً للخير هياباً للشر، مدفوعاً إلى الحق، رافضاً الظلم. كما يربطه أفقياً بعالم الشاهد، والبشر الآخرين، ربطاً يقوم على المحبة والتراحم، ويناقض القسوة والعنف.

هذا الفهم الروحاني العميق للدين، لا يكاد يوجد الآن بفعل الزحف الشديد لظاهرتين متناقضتين: أولاهما الأصولية الدينية وما تولده من تطرف وعنف، يؤدي إلى القتل باسم المقدس. وثانيتهما العلمنة الوجودية، التي تفصل الإنسان عن المقدس، وتتعامل معه باعتباره كياناً مادياً بحتاً، مجرد شيء مسطح بلا أعماق "جوانية" أو أخلاق سامية.

والدافع الثاني اقتصادي، ينبع من نمط حياة سريع الإيقاع محكم الحلقات، يدفع بالإنسان إلى الانشغال الدائم بتنمية عوائده المالية؛ إما خشية الانزلاق إلى مستوى مادي أدنى، وإما لتلبية حاجات الإنفاق على الملذات التي يتم اختراعها يوميا في مجتمع «المابعد» الاستهلاكي.

وبفعل هذا النهم المادي يفقد الإنسان إحساسه بمعنى «الرزق»، أي شعوره التلقائي الجميل بفرحة الكسب المالي الذي يأتيه فجأة فيسعد به ولو كان قليلاً، وذلك أمام طغيان مفهوم «الدخل» الذي لا يثير في النفس ألقاً أو مرحاً مهما كانت قيمته. فالإنسان المعاصر صار يعلم مصادر دخله، ويدرك على نحو مسبق ومخطط، حجم عوائده القادمة التي لا يسعد بها إذا ما جاءته كاملة؛ لأنه كان عارفاً بها.

ولأنه قام بتوظيفها في دورة إنتاج أو استهلاك قبل أن تأتيه فعلياً، أو على الأقل خطط لكيفية توظيفها، ربما عبر الفيزا كارد، من دون أن يلمس الأوراق المالية نفسها. أما إذا أتته تلك العوائد ناقصة نسبياً عما توقعه فسيبدو مختنقاً تماماً، حتى ولو كانت قيمتها الاسمية بالملايين أو حتى المليارات.

ويرجع ذلك إلى أنه لا يتفاعل مع القيمة الاسمية ذاتها كحصيلة تبدو له باردة بقدر ما هي متوقعة، ولكن مع حجم التغير في هذه الحصيلة صعوداً وهبوطاً، فهذا التغير وحده، هو الذي يبدو مثيراً لمشاعر الإنسان المعاصر، وهكذا تقل مشاعر الفرح مع موت فكرة الرزق بتلقائيتها المثيرة للمرح، وتزداد مشاعر القلق أمام مفهوم الدخل، بجموده الباعث على الضجر.

أما الدافع الثالث فعاطفي، يتمثل في ذبول ظاهرة الحب الرومانسي، أحد أنبل العواطف البشرية، بفعل اختفاء المسافات المكانية الفاصلة بين الناس في عالم متلاطم يكاد يسوده قانون الزحام، الذي يخرج منهم أسوأ ما فيهم، ويعطل لديهم أجمل ملكاتهم، إذ يعري الروح من خصوصيتها، ويهتك سترها، ما يفضي إلى ابتذالها، وتقويض عذريتها.

فمع اختفاء المسافات المكانية تكاد تختفي المسافات الروحية داخل الإنسان، التي كانت تحقق لمشاعره خصوصيتها، وتضمن لها الاحتفاظ بطزاجتها ونضارتها، كونها منسوجة من الحياء والخفر وما يجلبانه من سحر غامض أو غموض ساحر، يزيد من تأجج تلك العاطفة الرقيقة بفعل الشوق إلى المحبوب، وما يحركه من توق إلى عالمه الخاص، ثم الاعتياد عليه والتماهي فيه والذوبان داخله.

ومع شيوع تلك العاطفة، غالبا ما تنمو أواصر مجتمع رحيم، أكثر ترابطا وانسجاما وأقل توترا وصراعا، فالمحب الصادق هو شخص قادر على التواصل مع الكون كله، وليس مع المحبوب فقط.

لقد كانت هذه المسافة الروحية قائمة ومتوافرة في الأزمنة السابقة (التقليدية)، أما في الزمن الحديث فظلت قائمة نوعا، وإن شهدت تقلصا بفعل نشوء المدن الكبرى، وأما الزمن المعاصر، حيث تسود مجتمعات ما بعد (الصناعة، الحداثة..) فقد حرم تلك العاطفة من كل سحرها وغموضها، حيث أخذت المسافات تتضاءل واقعيا بفعل النمو السكاني والزحام الشديد، وتغيب افتراضيا بفعل ثورة الاتصالات وانفجار أدوات التواصل الاجتماعي، وما يصاحب ذلك من جرأة في التعبير عن العواطف، مع سطحية مفرطة في التعاطي معها.

ومن ثم صارت القصص العاطفية قصيرة العمر وإن طالت، فالإيمان والحب يصدران عن نبع إنساني واحد، ويعكسان القوة الروحية نفسها، مع تغاير وحيد في ذات المحبوب الذي تتوجه إليه كل عاطفة.. الذات الإلهية المطلقة والمتسامية في حال الإيمان، والذات الإنسانية العادية في حال الحب.