إذا وضعنا جانباً سياسات واشنطن البائسة في الشرق الأوسط، من الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة هي واحدة من أعظم الدول في العالم. لو لم تكن أميركا موجودة، لكان عالمنا أشد فقراً في مجالات التكنولوجيا، واستكشاف الفضاء، والتقدم الطبي، والترفيه، والاختراعات التي بدّلت حياة البشر.
علاوةً على ذلك، إنها لمعجزة حقاً أن الولايات المتحدة تتمتع بالاستقرار على الرغم من خليط الأديان والأعراق الذي يعيش فيها. الأميركيون هم نحن، نحن جميعاً. باستثناء الهنود الحمر، جيناتهم هي جيناتنا. لقد نجحت هذه البوتقة المؤلفة من 320 مليون شخص هرب أسلافهم من الفقر والاضطهاد لتحقيق أحلامهم في هذا العالم الجديد ونجحوا في التوحّد، في توحيد الجميع تحت راية واحدة باعتزاز ووطنية كبيرَين.
خلال زيارتي الأخيرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، كان لي شرف إلقاء كلمة في المؤتمر العربي - الأميركي لصنّاع السياسات الرابع والعشرين في العاصمة واشنطن أمام حضور كبير. تطرقت إلى مواضيع عدة لكنني ركّزت في شكل أساسي على العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم العربي، وأمننا المشترك وصداقتنا التاريخية.
في الوقت نفسه، انتقدت احتضان الرئيس أوباما لإيران، وعدم التزامه بإقامة دولة فلسطينية، وفشله في التدخّل لإنقاذ الشعب السوري العالق بين قنابل النظام والإرهابيين. أن أتمكّن من التعبير عن رأيي حول الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة، في خطابٍ ألقيته على الأراضي الأميركية، يعني أن أميركا واثقة من نفسها بما يكفي للإصغاء إلى الانتقاد البنّاء، على النقيض من العديد من البلدان الأخرى التي تدّعي جزافاً احترامها لحرية التعبير.
لقد تحوّل التهجّم على الولايات المتحدة هواية رائجة في أجزاء كثيرة من العالم، ومنها المنطقة التي أنحدر منها. بتنا نتّهم واشنطن بالوقوف خلف كل المشكلات التي تقع. نستمتع بنظريات المؤامرة المناهضة للولايات المتحدة، ونقبلها وكأنها الحقيقة المطلقة حتى ولو كان بعضها سخيفاً جداً. ليست هناك دولة من دون أخطاء، ولا أشخاص من دون عيوب. بمقدار ما نسارع إلى إلقاء اللوم على أميركا، علينا أن نحتفي أيضاً بالنعَم والعطايا التي تتمتّع بها.
لقد ارتكبت الإدارات الأميركية أخطاء في معظم أنحاء الشرق الأوسط خلال الأعوام الأربعة عشر الماضية. تُجمع الأكثرية الساحقة على أن التدخّلات الأميركية في أفغانستان والعراق وليبيا منيت بإخفاقات مكلفة جداً، أو على فشل الوساطة الأميركية في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. لكن علينا أن نقرّ أن الولايات المتحدة تتصرف بما تمليه عليها مصالحها الخاصة، على غرار القوى العالمية كافة – روسيا والصين والاتحاد الأوروبي.
سواءً كانوا يحبّوننا أو كانوا معنا أو ضدّنا، هذا من حقّهم كدولة ذات سيادة مسؤوليتها الوحيدة هي تجاه مواطنيها. ونحن الذين نتأثّر بالممارسات الأميركية نملك الحق في أن نتّسم بالشفافية والوضوح عند التعبير عن آرائنا حول الأخطاء الأميركية في منطقتنا.
وبما أن الامتداد العالمي للولايات المتحدة واسع جداً، وانطلاقاً من القول الشائع: «عندما تعطس واشنطن، يصاب باقي العالم بالزكام»، خصّصتُ جزءاً من كلمتي للحديث عن الانتخابات الرئاسية التي ستشهدها الولايات المتحدة العام المقبل.
لسوء الحظ، جلب جورج دبليو بوش ومستشاروه من المحافظين الجدد كارثةً لمنطقتي. ثم تبيّن أن الرئيس أوباما الذي استهلّ رئاسته بمدّ يده إلى المسلمين، سيئ بالدرجة نفسها لا بل أكثر في ما يتعلق بسياساته تجاه منطقة الشرق الأوسط. قلت أمام الحضور في المؤتمر العربي - الأميركي لصنّاع السياسات: «قد يقول البعض إن الانتخابات الرئاسية شأنٌ أميركي، ولا يجدر بشخص عربيٍّ مثلي التدخّل فيما لا يعنيه.
اسمحوا لي أن أصحّح لهم! سوف يكون لاختيار الرئيس الأميركي وسياساته تأثيرٌ على العالم بأسره».
وأبديت، في كلمتي كما في مقال نُشِر في الخامس من أغسطس الماضي، تأييدي لعملاق القطاع العقاري، دونالد ترامب، معتبراً أنه المرشّح الأفضل للرئاسة انطلاقاً من أن السياسيين المخضرمين يكرّرون على الأرجح الأخطاء نفسها التي ارتكبها أسلافهم لأنهم يتشاركون بطريقة تفكير مماثلة. على سبيل المثال، أوباما مفكّر عظيم قادر على النظر إلى المسائل من مختلف جوانبها، والتعاطي معها بمطواعية بدلاً من حسم الأمور بالأسود والأبيض.
يمكن أن تشكّل هذه الخصائص مزايا إيجابية في الحياة اليومية أو في مهنة المحاماة التي تخصّص فيها، لكنها تقود إلى الشلل والتردد في اتخاذ القرارات لدى القادة. لقد أثبت أوباما صحة المثل الشائع: «من يتردّد يخسر».
حمداً لله، تلوح صفحة جديدة في الأفق بالنسبة إلى الولايات المتحدة. تشير استطلاعات الرأي إلى أن الناخبين يريدون وجهاً جديداً يحمل أفكاراً جديدة، لهذا لا يزال ترامب يتقدّم على الرغم من كلامه الصريح الذي يعتبره البعض مسيئاً. بما أنه فاحش الثراء بما يجعله بغنى عن المتبرّعين لتمويل حملته الانتخابية، لن يخضع لسطوة أصحاب الثروات من أفراد وشركات ومراكز القوى.
يقول ما يفكّر فيه، ويثق بخياراته، بغض النظر عما يفكّر فيه الآخرون. ربما لا يملك بعد فهماً كاملاً على مختلف المسائل، لكنه يقول الحقيقة كما يراها. تصريحاته مثيرة للصدمة فقط للأشخاص غير المعتادين على قول السياسيين الحقيقة حتى عندما تكون جارحة.
تطغى مواقفه الأخيرة على العناوين الرئيسة. فقد عبّر عما يعرفه الجميع تقريباً في الشرق الأوسط والخليج – لو كان صدام حسين ومعمر القذافي لا يزالان في السلطة، لكان العالم أفضل بكثير.
فقد قال لمحطة «سي إن إن»: «انظروا إلى ليبيا. انظروا إلى العراق. لم يكن هناك إرهابيون في العراق. كان (صدام) ليقضي على الإرهابيين على الفور، أما الآن فقد تحوّل العراق معقلاً للإرهابيين.
إذا نظرنا إلى ما كان عليه العراق قبل سنوات - لست أقول إن صدام كان رجلاً جيداً، كان مريعاً - لكن العراق كان أفضل بكثير مما هو عليه الآن. لقد تحوّل العراق معقلاً لتدريب الإرهابيين. وبالنسبة إلى ليبيا، لقد تبدّلت كلياً، لم يعد بالإمكان التعرّف عليها.
بصراحة، لم يعد هناك وجود للعراق ولا لليبيا. لقد انهار البلدان. وخرجا عن السيطرة. لا أحد يدري ما يجري». لم يسبق لأيٍّ ممن يسمّون أنفسهم خبراء أو جنرالات متقاعدين أو سياسيين ويطلّون تكراراً عبر الشاشات للتعبير عن آرائهم، أن توصّل إلى هذه الحقيقة الخالصة.
في الوقت الحالي، يبدو أن ترامب وهيلاري كلينتون سيتواجهان في الجولة النهائية من الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهذا خبر سار. سوف تختار أميركا بين رجل أعمال قوي وناجح وصلب العزيمة وإحدى النساء الأشد حزماً في السياسة التي أظهرت رباطة جأش مدهشة أمام لجنة مجلس الشيوخ التي تتولّى التحقيق في الهجوم على البعثة الأميركية في بنغازي. بدت كلينتون من طينة الرؤساء، وحافظت على هدوئها ورباطة جأشها وتماسكها على الرغم من تعرّضها لهجوم شخصي لاذع.
أمام الأميركيين خياران كلاهما جيد في الانتخابات الرئاسية المقبلة. لكن سواء اختاروا ترامب أو كلينتون، أو الاثنين معاً، ثمة فرصة جيدة متاحة أمام الأميركيين – وأمام شعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كما نأمل – ليخرجوا منتصرين.