باريس في حداد. جميعنا في حداد على أولئك الذين احتشدوا في العاصمة الفرنسية باريس عشية يوم الجمعة، وهم لا يدرون أنها ستكون ليلتهم الأخيرة. جميعنا، ما عدا الإرهابيين وأتباعهم المضطربين عقلياً، الذين احتفلوا بابتهاج، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بمقتل أكثر من 129 شخصاً بريئاً، وما يزيد على 300 جريح، الكثير منهم في حالة حرجة.
أتعاطف مع جميع الباريسيين والزوّار الأجانب الذين ستتأثّر حياتهم إلى الأبد من جراء الأفعال التي ارتكبها أشرار تخلّوا عن حقهم في أن يُصنَّفوا في جنس البشر، فكم بالحري في عداد المسلمين.
روايات الناجين تزرع الرعب في النفوس. قال شاهد عيان، تمكّن من الفرار من مسرح باتاكلان، حيث احتجز أربعة مسلّحين يحملون رشاشات كلاشينكوف، أكثر من مئة شخص: «راحوا يطلقون النار علينا وكأننا طيور».
لقد تحقّقت التوقّعات التي استندت إلى وابل من التهديدات. فالإرهاب الذي يجد أرضاً خصبة له في الشرق الأوسط، الذي يرزح تحت وطأة الحروب، وصل إلى الأراضي الأوروبية، ما دفع بفرنسا إلى إعلان إغلاق حدودها، في خطوة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. كانت السلطات الفرنسية، التي لا تزال تعاني من تأثير هجمات «شارلي إيبدو» في يناير الماضي، مستعدة جيداً لاحتمالات تكرّر السيناريو. وقد وُضِعت البلاد في أقصى حالات التأهّب.
لقد أحبطت الاستخبارات الفرنسية، خمس مؤامرات مماثلة، لكن كما رأينا، حتى الدولة التي تتمتع بأجهزة أمنية ذات كفاءة عالية، عاجزة عن منع المتطرفين الذين يرتدون أحزمة ناسفة، من ضرب «أهداف سهلة»، يتم اختيارها لإيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا. يقول الخبراء، إنها مسألة وقت فقط، قبل أن تلقى بلدان أوروبية أخرى مصير فرنسا. وفي هذا الإطار، عمدت الولايات المتحدة إلى تشديد إجراءاتها الأمنية في المدن الكبرى.
انضم آلاف المواطنين الأوروبيين إلى التنظيم الإرهابي المسمّى «داعش»، وسواه من التنظيمات الإرهابية في العراق وسوريا. ويُعتقَد أن الآلاف عادوا إلى ديارهم بعد التمرّس في القتال، ويُبدون حماسة شديدة لمواصلة أعمال القتل في بلدانهم.
المقلق أيضاً، أن مقاتلي «داعش» تسلّلوا عبر موجات اللاجئين الهاربين من القصف ومن العنف البربري. إن الخشية هي أن تتم معاقبة هؤلاء اللاجئين، على الرغم من أنه لا ذنب لهم في ما يحدث، فالبلدان التي رحّبت بهم منذ فترة قصيرة، تعمد الآن إلى إغلاق حدودها، ومن يستطيع أن يلوم تلك الدول، فواجبها يحتّم عليها وضع مصالح مواطنيها أولاً.
يبدي المجتمع الدولي دعمه للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند. فالرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي كان قد أشاد في وقت سابق من يوم الجمعة الماضي، بالنجاح في التخلص من «الجهادي جون»، معلناً أنه تم احتواء «داعش»، كان من أوائل القادة الذين بادروا إلى الظهور أمام الكاميرات لنقل تعازيه إلى الشعب الفرنسي. فقد قال: «إنه اعتداء على البشرية جمعاء، والقيم الكونية التي نتشاركها. نحن على أتم الاستعداد لتقديم كل المساعدة اللازمة التي يحتاج إليها الفرنسيون».
لكن حتى لدى سماعي الرئيس الأميركي يتلفّظ بهذه الكلمات المريحة، لم يسعني سوى أن أقارن بين استعداده للمساعدة على حماية فرنسا، وتقاعسه في الرد على ما يجري في العراق وسوريا، حيث لقي مئات الآلاف مصرعهم.
أولاً، على الرغم من أن الولايات المتحدة تسبّبت بانهيار العراق عام 2003، عبر تأليب الشيعة ضد السنّة، إلا أن أوباما لم يبذل جهوداً لتصحيح الأوضاع. وبدلاً من التفاوض مع الحكومة العراقية من أجل الحفاظ على قوة أميركية فعّالة في البلاد، انسحب من هناك على عجل.
ولدى سيطرة نحو عشرة آلاف إرهابي من «داعش» على الموصل، توسّل رئيس الوزراء العراقي آنذاك، نوري المالكي، إلى الغرب كي يأتي لنجدة بلاده، لكنه لم يلقَ تجاوباً. وطلبت قوات البيشمركة الكردية، الحصول على أسلحة، فجوبهت بالرفض. وعندما بدأ الهجوم الجوي، كان تنظيم «داعش» قد أصبح قوة همجية يتعذر كبحها. على الرغم من القصف الجوي الذي يشنّه التحالف، والاستعانة بمجموعة كبيرة من المستشارين العسكريين الأميركيين، بات هذا التنظيم الشيطاني الذي يختبئ خلف راية الإسلام، يسيطر على ثلث العراق تقريباً إلى يومنا هذا.
وليبيا كانت على موعد أيضاً مع الفشل والفوضى. لقد أطيح بالقذافي من الحكم، بفضل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، لكن لم تُبذَل أي جهود لمساعدة الليبيين على التخلّص من الميلشيات المتناحرة أو إرهابيي «داعش»، ما يشكّل تهديداً مباشراً لمصر وتونس والجزائر.
أسوأ من ذلك، تعرضت الحكومة المصرية للتأنيب الشديد، لأنها قصفت «داعش» في ليبيا، رداً على قطع رؤوس رعايا مصريين من المسيحيين الأقباط، ولا تزال الولايات المتحدة تمنع الحكومة الليبية المعترف بها من استيراد الأسلحة الثقيلة التي تشكّل حاجة ماسّة.
وما يزيد الطين بلة، أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين، لم يحرّكوا ساكناً لتحرير لبنان من قبضة «حزب الله»، عميل إيران الإرهابي، لا، بل أكثر من ذلك، عمدت الولايات المتحدة، في وقت سابق هذا العام، إلى شطب الحزب مع أسياده الإيرانيين عن قائمة الإرهاب الأميركية!
المقاربة التي اعتمدتها الإدارة الأميركية في التعامل مع المجزرة في سوريا، حيث حوّل النظام مدناً بكاملها إلى أنهر من الدماء، والبلاد إلى معقل للإرهابيين، ميؤوس منها إلى أقصى الحدود. لقد قال أوباما، إن استخدام الأسلحة الكيميائية «خط أحمر»، لا يُسمَح بتجاوزه، لكنه لم يقرن القول بالفعل، وتراجع عن تعهّده بقصف أهداف للنظام في اللحظة الأخيرة، فتبخّرت المخططات التي كانت المعارضة قد وضعتها للإفادة من التدخل الأميركي.
وقد منيت الجهود التي تبذلها وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية (سي آي إيه) والبنتاغون لتدريب المعارضة «المعتدلة» وتسليحها، بإخفاق محرج. فجميع العناصر الذين تم تدريبهم، إما انضموا إلى المجموعات الإرهابية، أو سلّموا أسلحتهم الأميركية الصنع، في مقابل منحهم مروراً آمناً. قصفت الولايات المتحدة وشركاؤها في التحالف، معاقل «داعش» طوال عام ونيّف، إنما من دون تحقيق نتائج تُذكَر، كان هذا قبل انضمام روسيا إلى المعركة إلى جانب الأسد.
أعارض بشدّة التدخل الروسي لدعم الأسد، لكن لا مفر من الإقرار بالحقيقة.
لقد ألحقت روسيا في غضون أشهر قليلة، أضراراً بتنظيم «داعش»، تفوق ما حقّقه التحالف بقيادة الولايات المتحدة خلال فترة أطول بكثير. والآن، يبدو أن الولايات المتحدة وشركاءها الغربيين عقدوا صفقة مع موسكو لإبقاء الجزّار السوري مؤقتاً في منصبه، مع الوعد بتأمين خروجه بطريقة آمنة، الأمر الذي ترى فيه غالبية السوريين خيانةً لكل ما ناضلوا من أجله بشجاعة كبيرة، على امتداد أربعة أعوام ونصف العام.
كان بإمكان الرئيس أوباما، لا، بل كان من الأجدى به، أن يستأصل هذا الوباء من جذوره، عندما كان لا يزال في أطواره الأولى، لكنه غضّ النظر مراراً وتكراراً، ما أتاح لهذا السرطان أن يتفشّى في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى أن وصل إلى الشواطئ الأوروبية. وتدفع دول الاتحاد الأوروبي الآن ثمناً باهظاً جداً، بسبب تردّد أوباما، وذلك على ضوء الأعباء التي تترتّب على خزينتها وبنيتها التحتية، جراء تدفّق اللاجئين، هذا فضلاً عن هشاشتها المتزايدة تجاه الهجمات الإرهابية. لقد اتّهمت روسيا، الولايات المتحدة، بأنها تعرف بالضبط أين هي مواقع الإرهابيين، لكنها لا تقصفهم. رفضتُ هذا الاتهام في البداية، لكن الآن تساورني شكوك بأنه قد يكون صحيحاً.
أوروبا في حال توتر شديد، تخشى بريطانيا أن تكون مدنها الهدف التالي للإرهاب. يؤسفني القول بأن المملكة المتحدة، جعلت أراضيها خصبة أمام مثل هذه الهجمات، بسبب احتضانها للمتطرفين الذين يتنقلون بكل حرية في الشوارع، مطلقين التهديدات، ويوزّعون المنشورات بهدف التجنيد. لقد امتنع رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، حتى يومنا هذا، عن تصنيف جماعة «الإخوان المسلمين»، حاضنة جميع التكفيريين تقريباً، في خانة التنظيمات الإرهابية، بذريعة أنهم لا يشكلون خطراً، ما داموا يتقيّدون بالقوانين.
إنه بهذا القول يلعب بالنار، وأنا على يقين تام، من أن هذه المقاربة سترتد عليه عاجلاً وليس آجلاً. ربما بدا الإخوان مترددين في نشر أوساخهم عند عتبة بابهم، لكنهم يتحيّنون الفرصة، وعندما يبدأ زملاؤهم في تحويل البلدات البريطانية إلى برك من الدماء، سوف يكونون هم في طليعة المعتدين.
هل ستغيّر اعتداءات باريس قواعد اللعبة؟ هل ستحشد القوى الغربية الكبرى، إمكاناتها لمحو هذا التهديد عن وجه الأرض؟ هل سيُظهر القادة العرب قدراتهم، كما يفعلون الآن لإنقاذ اليمن؟ إذا لم يحدث ذلك، فإن العالم كما نعرفه، ولو كنت أكره قولها، يقف على شفا الهلاك.