تشكل قضية العبودية أو الرق أحد أعمق مصادر الألم الإنساني، الذي عرفته الحضارات الكبرى والدول الإمبراطورية، وشهدته عصور التاريخ السابقة على القرن العشرين، بل وأقرته الأديان السماوية ضـــمنا، وإن سعت فقط إلى التخفيف من وطأة الشعور به.
ففي الحضارة اليونانية، كان ثمة تشريع لنظام الرق العام، وأيضا لنظام الرق الخاص أو تسخير العبيد في خدمة البيوت والأفراد. و
حتى أفلاطون، الفيلسوف المثالي، يقضي في جمهوريته الفاضلة بحرمان العبيد من حق المواطنة وإجبارهم على الطاعة والخضوع للأحرار من سادتهم، مبررا ذلك الخضوع بتفاوت أصلي في الطبع بين السادة والعبيد وليس مجرد تفاوت تاريخي قابل للزوال.
بل رأى أفلاطون، في نوع من العنصرية المضادة، أن على العبد اليوناني طاعة السيد الغريب، ومن تطاول منهم على هذا السيد سلمته الدولة إليه ليقتص منه كما يريد!
أما الحضارة الرومانية، فكانت أكثر تعسفاً من سالفتها اليونانية في التعامل مع العبيد، حتى إن القانون الروماني منح للسيد الحق في إماتة العبد الذي يملكه لو أراد ذلك، فحياة العبد، وكذلك موته ملك لسيده، غير المسؤول تماماً عن تصرفه إزاء العبد.
ولأن الرومان وهم بصدد التحول من جمهورية إلى إمبراطورية، حاربوا كثيراً، واسترقوا أعداداً غفيرة من الدول التي خضعت لها، فقد وصلوا إلى المستوى الأعلى من التحكم في حياة الرقيق، كما صارت دولتهم هي القاعدة الأكبر للرق في التاريخ، حيث وصل عددهم في بعض المراحل إلى ثلاثة أضعاف عدد سكانها.
من جانبهم، كان اليهود يسترقون، وقد أمرت الديانة اليهودية بحسن معاملة الرقيق، وحددت زمن الاسترقاق بسبع سنوات يصبح العبد بعدها حراً.
وقد نشأت المسيحية وهو مباح فلم تحرمه، بل أمر بولس الرسول العبيد بإطاعة سادتهم كما يطيعون السيد المسيح، فقال في رسالته إلى أهل أفسيس: «أيها العبيد! أطيعوا سادتكم وحسب، بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم كما للمسيح، ولا بخدمة العين كمن يرضي الناس، بل كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله من القلب خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس، عالمين أن مهما عمل كل واحد من الخير فذلك يناله من الرب عبدا كان أم حرا».
وأوصى الرسول بطرس بمثل هذه الوصية، وأوجبها آباء الكنيسة لأن الرق، في اعتقادهم، كفارة من ذنوب البشر يؤديها العبيد لما استحقوه من غضب السيد الأعظم.
وأما الإسلام، فتعامل مع ظاهرة الرق بإدراك كونها من ناحية عصب النظام الاجتماعي القائم، حيث كان الاسترقاق في أحد أكثر صوره قسوة رائجا في جزيرة العرب، خصوصا في مكة. ومن ناحية أخرى ظاهرة مؤرقة للضمير الإنساني، تثقل كاهل الحرية في التاريخ.
ومن ثم اختار الإسلام حصار الظاهرة والضغط عليها بقوة حضور العقيدة ونزعة المساواة الكامنة في صلبها، وذلك عبر آليات ثلاث أساسية: أولاها: تضييق المنافذ التي يأتي منها، بدءا من تحريم كل رق غير رق الأسرى في الحروب.
وثانيتها بتوسيع الأبواب التي يخرج من خلالها بالحض على إطلاق الرقيق كنوع من المن والعفو يُثاب عليه المسلم. أو بإعتاق رقابهم كنوع من الكفارة للعديد من الخطايا، بنص القرآن الكريم. وثالثتها: الإحسان الى الرقيق، وإدماجهم في الحياة العامة على نحو يتقلص معه الفارق الموضوعي بينهم وبين الأحرار.
استمر الرق طيلة العصور الوسطى، وفي قسط كبير من العصر الحديث، حيث ظل قائما في عصر النهضة، ثم جاء الإصلاح الديني والرق ليس موضعاً لنقاش لدى المذاهب البروتستانتية الجديدة، بل يمكن الادعاء بأن مسيرة الاسترقاق اتسعت بفعل الكشوف الجغرافية، حيث نقل الأوروبيون عبر الأطلسي، وضمن عملية استعمار الأميركتين، نحو خمسة عشر مليون إفريقي أسود، مات بعضهم في عرض المحيط وعاش الباقون عبيداً للرجل الأوروبي.
بل جاء عصر التنوير متوازيا مع الثورة الصناعية، والرق لم يحرم قانونيا بعد، وإن تبدى كقضية مخزية في سياق الروح التحررية، حتى صدر قانون تحريم العبيد في ستينيات القرن التاسع عشر، أعقاب الحرب الأهلية الأميركية، وبدعم الرئيس إبراهام لينكولن، ليحقق المساواة القانونية بين الناس. ب
ل ظلت هذه المساواة القانونية سطحية، غير فاعلة في تحقيق الشعور بالمساواة الاجتماعية، حتى كانت حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كينج في ستينيات القرن العشرين. بل إن ظلالاً من التمييز الذي تمارسه الشرطة الأميركية بحق السود بين حين وآخر، تتعانق مع الممارسات الداعشية في العراق وسوريا، وخصوصا سبي النساء واغتصابهن.