ربما يمكن القول، مع شيء من المبالغة، إن الإنسان لم يتميز عن غيره من الكائنات إلا مع الثورة الزراعية، قبل نحو عشرة آلاف سنة، في منطقة الشرق الأوسط في وادي ما بين النهرين ثم وادي النيل، ومع هذه الثورة الزراعية بدأت الحضارة الإنسانية الحقيقية، واستقرار الأفراد وظهور المدنية وبداية الكتابة فضلاً عن تصنيع الأدوات، ومن بعد الثورة الزراعية، جاءت الثورة الصناعية منذ أقل من ثلاثة قرون، لترتفع قدرات الإنسان وإمكاناته في مختلف المجالات.
نجح الإنسان، عند اكتشاف الزراعة في استغلال طاقة الحيوان والأنهار لصالحه للقيام بأعمال تسوية الأرض، ونقل المحاصيل وحماية أراضيه.
وفي الوقت نفسه، فإنه اختار موقعاً لنشاطه إلى جانب الأنهار التي وفرت له وسيلة مهمة للنقل من مكان إلى آخر، فضلاً عن مصدر للرزق مع الأسماك، وهكذا جاءت الثورة الزراعية الأولى عندما استطاع الإنسان أن يعتمد على مصدر جديد للطاقة خارج قوته العضلية، وهذا المصدر كان تسخير الحيوان والأنهار، فالحضارة البشرية، ولدت مع اكتشاف وتسخير هذه الطاقات الجديدة.
وجاءت الصناعة لتمثل نقله حضارية أخرى مع اكتشاف مصدر جديد للطاقة مع اكتشاف قوة البخار واستخدام الفحم لتوليد هذه الطاقة الحرارية الجديدة، ثم اكتشاف الكهرباء من المساقط المائية، وبطبيعة الأحوال، فإن اكتشاف هذه الطاقات لم يكن مجرد صدفة أو ضربة حظ، وإنما نتيجة لتقدم العلوم والمعارف.
ومع ذلك، فقد عاب هذه الثورة الصناعية أمران، الأول: هو أن المستفيد الأساسي من هذا التقدم كان الدول الصناعية في أوروبا وأميركا واليابان، وأخيراً انتقل إلى عدد من الاقتصادات الناشئة مثل الصين والهند وربما البرازيل، إضافة إلى دول جنوب شرق آسيا، وتظل معظم الدول في أفريقيا وبعض آسيا وأميركا اللاتينية تعاني الفقر.
أما العيب الآخر فقد لحق الإنسان أينما كان موقعه، فهذه الثورة الصناعية، وقد دفعت بالإنسانية خطوات كبيرة للأمام، فإن ذلك لم يكن بلا تكلفة، وأوضح مظاهر هذه التكلفة هو ما ترتب على الاستخدام المكثف للطاقات الجديدة «الأحفورية» من بترول وغاز وفحم، من تلويث للبيئة، خاصة فيما تصدره من ثاني أكسيد الكربون في الجو وما يترتب على ذلك من ارتفاع في درجات الحرارة.
وهكذا نجد أن العالم الذي نعيش فيه يواجه تحديات بالغة الخطورة سواء بالتزايد السكاني غير المنضبط من جانب العديد من الدول النامية، أو بالتلوث البيئي وتغيير المناخ المترتب على الاستخدام المبالغ فيه لمصادر الطاقة «الأحفورية» من جانب الدول الصناعية، والسؤال يتضمن شقين، الأول: هو هل تستطيع الدول النامية أن تضبط نموها السكاني من أجل البشرية، وبلا أي مقابل؟
أما الشق الآخر فهو: هل تقبل الدول الصناعية تغيير استخدامها المبالغ فيه للطاقة «الأحفورية» حماية للبيئة، وبأي ثمن؟ ويرتبط بذلك تساؤلان آخران، هل مصادر الطاقة «الأحفورية» هي المصادر الوحيدة للطاقة؟
وهل الحقيقة هي أن المصدر النهائي للطاقة هو الشمس، وهي مصدر نظيف إلى حد بعيد، فضلاً عن أنها متوافرة بكثرة في الدول النامية، فهل من صفقة تاريخية بين الدول الصناعية المتقدمة والدول النامية لضبط الانفجار السكاني وحماية البيئة في الوقت نفسه؟ هذا هو التساؤل الأول.
والتساؤل الآخر هو، هل ينجح العالم إزاء مشكلات «التغيير المناخي» من ناحية، و«الانفجار السكاني» من ناحية أخرى، في عقد صفقة تاريخية بين الدول المتقدمة والدول النامية، تلتزم فيها الدول النامية باتخاذ سياسات جادة للحد من الانفلات السكاني، في حين تلتزم الدول الصناعية بتمويل الاستثمارات في الطاقة الشمسية المتوافرة بكثرة في دول العالم الثالث.