تجسد مسرحية المغادرة، التي كتبها بإبداع المسرحي الشهير فاتسلاف هافل، حالة ونفسية السياسي حينما يترك السلطة، ويفقد الوهج والبريق‫.‬ وهافل نفسه مثقف ومعارض سياسي، أصبح رئيساً لدولة تشيكوسلوفاكيا، وبعد الانفصال أصبح رئيساً لجمهورية التشيك‫.‬

وكتب المسرحية بعد أن غادر موقع السلطة في بلاده، وهي مسرحية ساخرة حول زعيم سياسي استقال من منصبه، لكنه رفض مغادرة مسكنه الحكومي. وتسجد معاناة الحاكم السابق، التي تحطمت حياته وعالمه بعد مغادرته مركزه القيادي.

وهذا واقع يواجه بعض السياسيين حينما يتركون مواقعهم‫،‬ ويعيشون أزمة المقارنات بين واقع يعيشونه وتاريخ عاشوه‫.‬ ما يجعلهم يفقدون توازنهم ورؤيتهم لطبيعة الأشياء‫.‬ وربما يبحثون عن الأضواء من خلال مواقف يتخذونها أو تصريحات يطلقونها‫.‬ وفي العمل السياسي هذا أمر طبيعي، لكن المعارضة تتطلب العمل داخل قوانين العمل السياسي وأخلاقيات الاختلاف الديمقراطي‫.‬

وكان الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي، أثار جدلاً كبيراً بهجومه على دولة الإمارات واتهامه لها بأنها تمول الانقلابات المضادة في الشرق الأوسط وتكره الثورات‫.‬

وكانت هناك ردود فعل لهذا الهجوم حتى من دولته، إذ استنكرت نفسها وزارة الشؤون الخارجية التونسية هذه التصريحات، واعتبرتها لا مسؤولة‫. فيما قال رضا بلحاح مدير الديوان الرئاسي، ‬إنّ الهدف منها، هو إرباك مؤسسات الدولة وإسقاطها، في الوقت الذي تحتاج فيه تونس لجميع أبنائها، معتبراً أنّ المنصف المرزوقي لم يستوعب بعد مغادرته للسلطة‫.‬

والحقيقة أن هذه النقطة مثيرة للتعليق، فالسلطة لها بريقها ووهجها، وحينما تذهب الأضواء تشكل نقطة عدم توازن عند المسؤول‫.‬ والمنصف ولكي نكون منصفين معه رجل مثقف وكاتب وله تاريخ مشرف في وقوفه ضد الديكتاتورية والقمع، وله منتج فكري مميز‫،‬ ولكنها الإشكالية الدائمة التاريخية بين المثقف والسلطة‫ تلك العلاقة الضبابية‬ بينهما، وهي علاقة يحكمها الشك والحذر..

وأحياناً التعارض والعداء، فالمثقف يلعب دور تنويري في المجتمع، وهو كما وصفه ابن المقفع الذي يقود عربة الإصلاح لوضع المجتمع والحاكم، لكنه يكون تحت ضغط أكبر، حينما يكون هو نفسه في موقع المسؤولية، وتكون المواجهة بين التنظير والتطبيق. فالقدرة على ترجمة الأفكار إلى واقع ملموس، هو المحك لتقييم فكر الشخص.

وقد فسر البعض هذا الهجوم، بأنه نوع من المزايدة السياسية، وأن المرزوقي خلط بين دوره كرئيس سابق، ونشاطه كحقوقي، ما أخل بعمله، وأن دوره كرئيس سابق يفرض عليه التزامات سياسية، وله حق المعارضة، لكن إقحام دول خارجية ضمن الصراع السياسي الداخلي، هو خلط للأوراق وإساءة له شخصية، قبل أن تكون إساءة للآخرين.

ودولة الإمارات هي دولة مهمة ومؤثرة، ولها مواقف إيجابية مع تونس سياسياً واقتصادياً، وهذا المقال ليس للدفاع عن دولة الإمارات، فهي لا تحتاج إلى ذلك، وقد كان أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي حاسماً في تعليقه بقوله «المرزوقي في هجومه على الإمارات..

لا يخرج عن سياق أدائه السياسي بكل خفته وعدم اتزانه، صوت من الماضي يبرِّر إخفاقه، نبرة عالية تحاول أن تغطى الفشل، موقف الإمارات كان، ويبقى، لصالح استقرار المنطقة وتماسكها، ولعل معظم الأصوات التي تستقصد الإمارات، هي من يحمل مشروعاً متطرفاً وطائفياً للمنطقة، والمرزوقي كان مطية لبعضهم».

والحقيقة أن الإمارات في مواقفها السياسية، كانت تسعى لتجنيب المنطقة خطر التطرف والتقسيم والحروب الداخلية، وإذا كان المنصف يتحدث بواقعية، فماذا يقول عن السيناريو الذي كاد يعصف بالأمة العربية، فمشروع الإخوان في مصر كانت أهدافه أكبر من مصر، وقاد مصر والمنطقة إلى خطر، وخرج الشعب المصري بكل طوائفه في وقفته الشهيرة في 30 يونيو، ليستعيد زمام المبادرة.

ويثبت وعي وإدراك الشعب المصري، وهل كان المنصف ينتظر أن تسقط اليمن تحت سلطة مليشيات الحوثي، وتصبح صنعاء العاصمة الرابعة في الفلك الإيراني. هناك مواقف ومصير استراتيجي، ولا بد من دول قيادية تقوم بدورها الذي سوف تسأل عنه الآن والأجيال المقبلة.

المثقف هو صوت وضمير الأمة، ومن الخطأ أن يختصر كل هذا من أجل تسجيل موقف سياسي ضد حزب أو مزايدة لمعركة سياسية داخلية. والمثقف، كموقف، له حرية إبداء الرأي والانتقاد، لكن الخلط بين دور السياسي وموقف المثقف، هنا الإشكالية. والمنصف نفسه..

وهو الذي يتبنى الاتجاه العلماني الحداثي، وينادي بالفصل بين الدين والدولة، تحالف هو وحزبه آنذاك، المؤتمر من أجل الجمهورية، مع حركة النهضة الإسلامية، في إطار تحالف الترويكا. أي خلع قبعة المثقف صاحب الموقف الثابت، وتعامل مع الواقع برؤية السياسي البراغماتي. وهذا شأن السياسة في التبدل والتحالفات.

المنصف المرزوقي ينتظر منه، وهو الكاتب والمثقف، أن ينقل الحقائق كما هي، ويساهم بدوره التنويري في جمع الشمل وتعزيز التضامن العربي، فأحياناً ألا ترى الصورة مطلقاً، أفضل من أن ترى نصف الصورة، وتصدر أحكاماً قطعية عليها.