يستذكر الوزير البحريني الأسبق الدكتور علي فخرو في مقال له نشر قبل أيام، تقريراً أعده مثقفون وأكاديميون ومختصون خليجيون في العام 1981، بطلب من وزراء التخطيط بدول مجلس التعاون الخليجي، يشمل تصوراً «لاستراتيجية بعيدة المدى تعمل في إطارها جميع خطط وبرامج التنمية في دول المجلس».

وحسب فخرو، فإن المعنيين ناقشوا «سبعة عناوين كبرى تتعلق بالبترول والعمالة والاقتصاد والإدارة العامة وامتلاك المعرفة والتقنية وإصلاح التربية والتعليم».

وأضاف أن التوصية المفصلية في ذلك التقرير «تتعلق باعتبار البترول ملكية عامة، وبالتالي الاحتفاظ بالجزء الأكبر من عائداته في بناء تنمية شاملة، بما فيها بناء اقتصاد بديل إنتاجي يولد فوائض كافية لاستمرار تنمية إنسانية مستمرة في المستقبل».

ويضيف: «ولذلك قدمت توصية جريئة وواضحة وهي أن تسعى دول المجلس إلى تخفيض نسبة مساهمة البترول في الناتج المحلي الإجمالي من 50 في المئة في الثمانينات إلى نسبة 25 في المئة بحلول العام 2000، وتخفيض مساهمة البترول في تمويل النفقات العامة (الموازنة) والنفقات الإنشائية من نحو 82 في المئة إلى لا شيء بحلول العام 2000».

يتساءل الوزير المخضرم: «هل أخذت حكومات دول المجلس آنذاك توصيات التقرير على محمل الجدّ أو حتى تبنّت بعضها؟ الجواب مع الأسف هو النفي، بل إن الحكومات تجاهلت ذلك التقرير الاستراتيجي المهم، وبذلك دخل طيَّ النّسيان». (انظر: قصة مفجعة عن تقرير أهمل، صحيفة الوسط البحرينية، 22 يناير 2016).

يدور في خلدي ومن المؤكد في خلدكم سؤال طرحه د. فخرو في مقاله أيضاً: «ترى لو تبنّت دول المجلس تلك التوصيات المتعلقة بالبترول وبتغييرات جذرية في الاقتصاد، فهل كانت ستواجه الوضع الحالي وهي مغلولة الأيادي ودون وضع اقتصادي ومالي متين قادر على مجابهة آثار أزمة هبوط أسعار البترول المفجعة الحالية والمرشّحة للامتداد في المستقبل؟».

إن كان الاستنتاج هنا أن الأمر يتعلق بقصر النظر، فهذا لن يجانب الصواب، فكل ردود الفعل تشير إلى أننا لم نكن مستعدين، فالنفط مازال يشكل النسبة الأكبر من الدخل الوطني في غالب بلداننا الخليجية.

لكن الثمانينات من القرن الماضي كانت العقد الذي شهد تطورين متلازمين: الحرب العراقية – الإيرانية والطفرة النفطية الثانية. ورغم الحرب ومخاطرها الجمة، كانت مداخيل النفط العالية تبدو مسكرة، فلم تلق مثل تلك الدعوات التي تضمنها التقرير الذي أشار إليه فخرو آذاناً صاغية تماماً، مثلما كان مصير التحذيرات من تزايد الاعتماد على العمالة الوافدة.

ومن باب الإنصاف، قد يتعين علينا أيضاً أن نرى طفرة الثمانينات وخطط التنمية التي شرعت فيها حكومات المنطقة وقتذاك من زاوية المفاضلة بين الأولويات، وما تحقق في تلك الفترة وما بعدها.

كان تطوير البنية التحتية والتوسع في التعليم ومشروعات الإسكان والصحة وتطوير الصناعة المتوسطة وقطاع الخدمات ضرورياً. لكن من الواضح أن خيارات مثل تلك التي تضمنها تقرير مبكر لمثقفين وأكاديميين خليجيين قد قدم أولويات أخرى إضافية تم الإشاحة عنها.

وإذا كان هذا جديراً بأن يلفت أنظارنا إلى شيء، فهو أن في دولنا مفكرين ومثقفين رؤيويين بإمكانهم تقديم رؤى بعيدة المدى، ليس في إدارة الثروات فحسب، بل في التنمية بمعناها الأشمل، لكن من الواضح أنهم ليسوا النوع المفضل.

وللحكم على صحة ما ذهب إليه أولئك المفكرون الخليجيون مبكراً، تكفي مقارنة ما اقترحوه في تقريرهم ذاك (نذكر أنه تم بطلب من وزراء التخطيط في دول المجلس) مع نوع الاقتصادات التي تم بناؤها في دول الخليج من بنات أفكار ذلك النوع من الاقتصاديين (اقتصاديي وول ستريت) الذين لا يرون في الاقتصاد أكثر من مضاربات وخطط تطرح في كل عقد من السنوات مثل الموضة.

إن تمهين التعليم مثلاً الذي تتضمنه خطط تطوير التعليم في أكثر من دولة خليجية في الوقت الحاضر، كان خياراً قد تم العمل به ضمن خطة تطوير التعليم التي دشنها وأشرف عليها الوزير علي فخرو، عندما كان وزيراً للتربية والتعليم مطلع ثمانينات القرن الماضي.

فبموجب تلك الخطط الطموحة، تم استحداث تفريعات في التعليم الثانوي مثل النسيج والطباعة، لكن كل هذا التطوير تم التراجع عنه بمجرد أن خرج فخرو من الوزارة.

 وقبل ذلك كان قد أرسل مئات المعلمين إلى الجامعات لنيل شهادة في التربية، إضافة إلى التخصص الجامعي، أضف لذلك أن المعلمين كانوا يشاركون في مناقشة كل ما يتصل بالتعليم ضمن مؤتمر سنوي كان يتم الإعداد له جيداً وعلى مدى عام كامل.

القليلون أدركوا أهمية التطوير الذي أدخله علي فخرو على التعليم في البحرين، فالشكوى لم تنقطع من المناهج الجديدة وتفريعات التعليم الثانوي. وفي مجتمع يفتقد حس المبادرة، كانت ردة الفعل حيال هذا التطوير الشامل في التعليم تذهب كالعادة إلى السخرية: من سيشغل خريجي تفريع النسيج؟ هل سيعملون خياطين؟

أما المؤتمر التربوي الذي يفترض أن يوفر منصة للمعلمين للمشاركة في تطوير التعليم، فلم يكن بالنسبة لمعظمهم سوى مناسبة للشكوى والتذمر، بل وللتحريض أيضاً. فقد انصبت مشاعر التذمر على واحد من أفضل الخبراء التربويين العرب الذي كان مستشاراً للوزير لا بسبب آرائه المهنية أو اجتهاداته أو تحليله الدقيق والعلمي للمناهج وأساليب التعلم، بل لمجرد كونه وببساطة مسيحياً.