ما أن تبدأ حرب دبلوماسية أو سياسية أو إعلامية أو عسكرية بين فريقين حتى يتبادر للذهن إمكانية استعمال سلاحي الحصار والتجويع بينهما.

على مر التاريخ استُعمل الحصار والتجويع لإرغام الطرف الآخر على الرضوخ لشروط الطرف الأقوى. خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية مثلاً استُخدم حصار الدول والمدن والبلدات الأصغر على نطاق واسع. في ألمانيا النازية استخدمت الحكومة المركزية الحصار والحرمان والتجويع ضد الأقليات الألمانية المتمردة على الحكم..

إضافةً إلى استخدام الحصار ضد دول بعينها مثل بولندا والدنمارك وهولندا. في حصار المدن تعرضت وارسو البولندية لحصار وتجويع نازي مما أرغم سكانها على الانخراط في المقاومة المسلحة ضد الحصار النازي. الأمر ذاته حصل بالنسبة لموسكو وليننغراد وأمستردام وغيرها من المدن الأوروبية.

حديثاً استخدم الغرب الحصار والتجويع على نطاق واسع ضد العراق وليبيا وإيران وكوريا الشمالية وغيرها من الدول. الهدف هو إجبار تلك الدول، بضغط مدني شعبي داخلي، للرضوخ للدول الكبرى المهيمنة على صنع القرار، ولقبول شروط منها نزع سلاحها خاصةً غير التقليدي منه.

إبان حصار العراق، بعيد احتلال الكويت، حُرم العراق من استعمال مدخراته المالية في المؤسسات المالية الغربية والعالمية لتمويل أنشطته التموينية المدنية. كذلك الأمر حدث بالنسبة لليبيا وإيران وكوريا الشمالية وغيرها من الدول في مختلف القارات.

الحصار والتجويع استعملته القوى الغربية المتمكنة لإرغام الدول الأخرى على تحقيق شروط عادةً ما تُطبَّق تلك الشروط نتيجةً الانتصار في الحروب العسكرية. عانت وتعاني الدول والشعوب المحاصَرة تبعات الحصار، خاصةً ما يعانيه المدنيون من نقص خطير في الأغذية والأدوية والخدمات الإنسانية العامة.

في الحروب الأهلية العربية استُعمل الحصار والتجويع من قبل طرف ضد الآخر. تريد الأطراف المتصارعة إجبار الآخر على الاستسلام أو دفع ثمن مقابل رفع الحصار ووقف التجويع. تشمل الشروط الانسحاب من مناطق أو تبادل أسرى أو تحرير سجناء من الطرفين، وغير ذلك. ما لم يستطع فريق حسمه ميدانياً بالقوة العسكرية يود إنجازه بالحصار والتجويع.

في العراق مثلاً فرضت الحكومة المركزية حصاراً خانقاً على مدن مثل الفلوجة والرمادي وتكريت وغيرها من أجل الضغط على المدنيين للوقوف عسكرياً ضد النشاط المقاوِم للحكومة المركزية.

وعندما فشلت في تحقيق المهمة أقدمت على تدمير مدن وبلدات بشكل شبه كامل، ونهب وسلب ممتلكاتها وتقتيل المدنيين فيها. الأمر ذاته حصل في سوريا حيث النظام الطائفي فرض حصاراً وتجويعاً على كافة البلدات والمدن والأقضية التي رفضت وجوده الإداري والعسكري والحزبي.

غالباً ما كانت النتيجة لاستعمال الحصار ضد المدنيين سلبيةً على المدى القريب أو البعيد، أو الاثنين معاً. الحصار النازي على الدول والمدن أدى لحصول مقاومة مدنية مسلحة على نطاق واسع أدت في النهاية إلى المساهمة الفعالة في هزيمة ألمانيا النازية وبشكل مذل وقاهر. الحصار والتجويع ضد العراق وإيران وليبيا وكوريا الشمالية وغيرها أدى إلى استفحال المعضلات والقضايا السياسية.

في غياب حلول سياسية للمشاكل بقيت الأمور تعمل مثل قنابل موقوتة، أو دمامل سياسية، تؤرق صفو وسلام المجتمع الدولي والبشري. الحصار والتجويع جرائم ضد الإنسانية من يلجأ إليهما خاسر سياسياً وأخلاقياً واجتماعياً وحضارياً. في ذلك يفقد الجنس البشري أخلاقه وحضارته وإنسانيته في سبيل تحقيق نزوات يسميها الانتصار العسكري، والتي غالباً لا تكون كذلك.

على غرار الصور القادمة من معسكرات اعتقال النازيين عقب تحريرها من قبل قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية يحصل في بعض المدن السورية المحاصرة من قبل قوات حزب الله اللبناني، مدعوماً بوحدات من الجيش السوري النظامي.

قد تكون تلك الجرائم عاديةً بالنسبة للنظام السوري الطائفي الذي غالباً ما ارتكب جرائم أكثر فظاعةً في سجونه ومعتقلاته ومناطق نفوذه.

لكن كيف يكون الأمر كذلك بالنسبة لحزب يظل يشكو الظلم والحصار، وقيادة له تتبع نظام ولي الفقيه الذي يشكو من الحصار الغربي على إيران. في ذلك لن يكون قادة حزب الله ولا النظام السوري أكثر صلابةً وصموداً وأحسن حظاً من هتلر وموسوليني وجورجيْ بوش (الأب والابن) وغيرهم. هؤلاء أسقطهم حصار المدنيين وتجويعهم في أدنى مراتب التاريخ البشري مهانةً.