تذكرني لقطات الجليد الذي يهطل على شمال السعودية هذه الأيام، بإعلان تلفزيوني عن منتج للشعر يصور جليداً يتساقط على دول الخليج ورجل مرتدياً الزي الخليجي وامرأته مرتدية العباءة يستخدمان زلاجة على الجليد.

وحسب مبالغات الإعلان، فإن هذا سببه المنتج نفسه الذي يبرد فروة الرأس. على سبيل المزاح فقط بإمكاننا أن نعتبر هذا تكهنات مبكرة، لكن هذا كفيل بأن يجعل فروة رأسنا تسخن عندما نتذكر ظاهرة اسمها «الاحترار العالمي».

هناك عبارة بحرينية وخليجية متداولة عندما يريد الشخص أن يتمهل لمن يستحثه على الإسراع في اللحاق بموعد ما بقوله: «تو الناس»، أي ما زال الوقت مبكراً. تقال العبارة أيضا على سبيل المزاح عندما يصل الشخص متأخراً إلى مكان ما أو مناسبة ما فيمازحه البعض: «تو الناس».

كان الكثيرون في دول الخليج -ومن بينهم مسؤولون- يرددون «تو الناس» منذ ثمانينيات القرن الماضي على الأقل ومنذ أن ترددت الدعوات للتفكير والتخطيط لمرحلة ما بعد نفاذ مخزون النفط، لكن ليس من الضروري أن يكون التعليق الفوري على التدابير والخطط التي شرعت فيها دول الخليج تحت تأثير انخفاض أسعار النفط هو «تو الناس» بالمعنى الساخر ذاك.

بل إن ذلك حري بأن يقود إلى عصف ذهني مثل الذي تقوم به حكومة دولة الإمارات الآن للتفكير في خطط وبدائل لمستقبل بعيد.

يصدق على هذا ما يتعلق بتغيير المناخ، وما أتمناه الآن هو ألا نسمع لدينا من يقول «تو الناس» حيال المطالبات بالاستعداد لتغيرات المناخ. ليس هذا ما يشغلني الآن بقدر ما يشغلني السلوك العام في المجتمع، وتحديداً الكيفية التي تتغير بها السلوكيات العامة السائدة.

لم تثبت التجربة للأسف أن السلوك العام وما اعتاد عليه الناس يتغير طواعية وبسلاسة، بل لا بد من سبب قاهر لذلك، فمهما كان الأمر، فإن الناس تميل إلى السكون لا إلى التغيير. ومن المؤسف أنهم يحتاجون لكوارث أحياناً لكي يبدؤوا بالتفكير في تغيير سلوك أو عادة ما.

في مواجهة هذه التحديات وغيرها، لدينا عبارة تتردد منذ عقود طويلة تكاد تلخص ردة فعل واحدة قد لا تكون خطأً بالضرورة: «الدعوة إلى رفع الوعي العام» وتنويعاتها الأخرى: حملات توعية مكثفة، زيادة حملات التوعية، تكثيف حملات التوعية. وفي أحيان أخرى الدعوة إلى تدخل الدولة.

تكاد الدعوة إلى رفع مستوى الوعي أن تكون الأداة الوحيدة لدينا لمواجهة قائمة من المشكلات والظواهر حتى تلك المرتبطة بشكل رئيس بالعادات والكيفية التي يفكر ويتصرف بها الناس. لكن حتى مع هذه الأداة الوحيدة فإن التعويل يكون حصراً على الحكومة.

كل شيء مرهون بالحكومة ولن يتحرك شيء ما لم تقم الحكومة بذلك. اعتبروني طفلاً في العاشرة وسايروني في هذا السؤال: كيف يمكن رفع الوعي العام؟

الدعوة إلى رفع الوعي العام ليست خطأ، لكنه لن يكون ممكناً بقرارات أو خطط أو تدابير حكومية فحسب؛ فالحكومات تتخذ تدابير وتفرضها على الناس عندما يتعلق الأمر بالأمن الغذائي والأمن والاستقرار ومكافحة الجريمة وكافة متطلبات الحياة اليومية.

وبإمكانها أن تعدل سلوك الناس قليلاً حيال الإسراف المالي مثلاً بإجراءات وتدابير تحد من شره الاستهلاك وتمنع المضاربات وتحافظ على استقرار الأسواق وتوفر السلع الضرورية، لكن ليس بإمكانها أن تقنع الناس بين ليلة وضحاها بالتخلي عن حب المظاهر مثلاً.

وبإمكانها تنظيم عشرات الورش وحملات التوعية حول ثقافة الادخار، لكن ليس بمقدورها تغيير عادة الإسراف والتبذير. ليس من قبيل المبالغة أن نلحظ هنا أننا لربما نحتاج لأن نضع حداً فاصلاً بين مفهومين متماهيين في الثقافة العامة: الإسراف والكرم، فمن المؤكد أن الكرم لا علاقة له بالإسراف، والسؤال الساذج الآخر هو: من سيضع هذا الحد الفاصل؟

يحضرني هنا مثال عايشناه في البحرين في ثمانينيات القرن الماضي لا أتمنى أن يتكرر مثله. ففي مطلع العقد، تزايدت الدعوات إلى جلوس النساء في البيوت وترك ميادين العمل للرجال.

حالة البحبوحة التي وفرتها مداخيل النفط وموجة التدين التي عمت بلداننا في ذلك الحين كانت وراء هذه الدعوات بالتأكيد، لكن النقاش لم يكن نقاشاً ثقافياً فحسب، بل تعدى ذلك إلى سلوك عملي شاع لفترة عندما راح البعض يشترطون على زوجات المستقبل ترك الوظيفة والجلوس في المنزل تحت دعاوى التفرغ لتربية الأبناء.

لكن ما إن جاءت أزمة أسعار النفط في العام 1983، حتى بدأت تلك الدعوات تتلاشى، بل وراح أولئك الذين كانوا يطالبون بجلوس النساء في البيت يسألون أولاً ما إذا كانت زوجات المستقبل يعملن أم لا. الفارق واضح، فلقد أجبرت حقائق الاقتصاد الناس على تغيير مفاهيمهم وسلوكهم، فراتب واحد لن يكفي لتأسيس بيت وأسرة.

أياً كانت الخطط الحكومية لرفع مستوى الوعي في مجال ما، فإن النجاح لن يكتب لهذه الخطط طالما أن الناس تقابل هذه الخطط بعدم اكتراث وسلبية. يتعلق الأمر هنا بعنصر حيوي غائب، إنه «حس المبادرة».

 حس المبادرة غائب لدينا، وما يحيرني هنا هو أن هذه الملاحظة تسري على المثقفين والمتعلمين عموماً مثلما تسري على البسطاء من الناس. وبعبارة مختصرة، سوف نتأكد من أننا نحافظ على البيئة فعلاً فقط عندما لا نرى لافتات تذكرنا بذلك أو بالمحافظة على النظافة في حديقة عامة أو مرفق عام.

 

محمد فاضل – مستشار علاقات إقليمية بمركز بحوث في دبي