يحتفي العالم بعد أيام قلائل بـ«عيد الحب» تبجيلاً لتلك العاطفة الرقيقة التي كادت تكون صمغ وجودها، قبل أن تعاني أخيراً ذبولاً كبيراً أصاب حياتنا بالجفاف، وذرع في علاقاتنا فيروس القسوة، حتى أخذ سيف الصخب والعنف برقابنا، وتلوث الفضاء الذي نتنفس منه، فلم يعد للروح طهارتها الأولى، ولا للحياة مذاقها الأخاذ، بل تحولت إلى ماراثون طويل يكاد لا ينتهي، يلهث فيه الجميع أملاً في لحظة هناء لا تأتي أبداً.

ورغم أن عوامل مختلفة سواء بيولوجية موروثة أو ذاتية مكتسبة كالتعليم والثقافة أو اجتماعية كقوة ضبط الأعراف والتقاليد، ترسم الحدود المحيطة بعلاقات الحب، إلا أن عاملاً مشتركاً بين الجميع يتمثل في ضرورة وجود مسافة مناسبة بين البشر، يبقى مهماً لنمو العلاقات السوية بين الإنسان والآخرين.

إذ تعتاش مشاعر الحب الرومانسي على مسافة روحية داخل الإنسان، قوامها الحياء والخفر وما يجلبانه من سحر غامض أو غموض ساحر، يزيدان من تأجج تلك العاطفة الرقيقة، ويحتفظان لها بنضارتها، حيث الشوق العذري إلى المحبوب، والتوق إلى عالمه الخاص، هو ما يدفع إلى طول الانشغال به، والتماهي معه.

أما غياب تلك المسافة، بفعل التضاغط الشديد بين الناس، فيخرج منهم أسوأ ما فيهم، ويعطل لديهم أجمل ملكاتهم، إذ يعري الروح من خصوصيتها، ما يفضي إلى ابتذالها.

هذه المسافة الروحية كانت حاضرة في الزمن التقليدي، حيث الغموض الساحر في الفيافي والصحاري والقرى الكبيرة أو المدن الصغيرة يلف العلاقة بين الرجل والمرأة، وينثر حولها القصص النبيلة.

ولكنها تقلصت كثيرا في الزمن الحديث بفعل نشوء المدن الكبرى، وتنامي المنتديات التي تجمع بين الجنسين في العمل والسفر والترفيه، إلى درجة صبغت العلاقة بينهما بميسم خاص، بدت فيه الجرأة أكثر سفوراً والسحر أقل حضوراً، فيما الغموض غائب تقريباً، وهي تركيبة أبقت للحب عالماً قائماً وإن لم يعد ساحراً.

أما الزمن المعاصر فحرم عاطفة الحب من كل سحرها وغموضها، حيث أخذت المسافات تتضاءل واقعياً، وتغيب افتراضياً بين النفوس بفعل ثورة الاتصالات، وما يصاحب ذلك التضاغط الإلكتروني من جرأة في التعبير عن العواطف، وسطحية مفرطة في التعاطي معها.

في هذا السياق يكفي أن نتذكر كيفية تعبير شاب في خمسينيات القرن العشرين مثلاً عن مشاعره، مقارنة بما نشاهده الآن لدى شاب في الألفية الثالثة.

فمع الشاب الأول تخايلنا صورته حائراً في كيفية التعبير عن مشاعره للمرة الأولى، تضطرب دقات قلبه، وتختلج حركة صدره، عند رؤية محبوبته، والأغلب أن يلجأ إلى كتابة رسالة رقيقة جداً على ورق ملون، قبل أن يقوم بتعطيرها، ووضعها في مظروف تمهيداً لإرسالها، أو وضعها في كتاب يضمن أنه سوف يصل إلى محبوبته، وذلك لتفادي صعوبة اللقاء الأول، وتجنب صدمة قد تقع لو أن رد فعلها كان سلبياً أو حاداً.

وفي كل الأحوال نجد أنه سيعاني ارتباكاً مثيراً، ويعيش لحظات انتظار وترقب خجول لردود فعلها، وما يصاحب ذلك من حالة شجن ربما تنتهي بلحظة بالغة السعادة أو على العكس، مفرطة في القسوة. لكن وفي كلتا الحالين نتوقع أن يكون النبل سيداً للموقف، فرحاً حقيقياً أو حزناً متسامحاً.

إنها الحالة التي غناها عبد الحليم في سبعينيات القرن الماضي بكلمات ولا أرق، وفي لحن ولا أعزب أبكى الكثيرين لا لشيء إلا لأنه ذكرهم بأول قصة إنسانية وقعت لأغلبهم إن لم يكن لجميعهم، وبأول مرة شغفت فيها قلوبهم بطيف حبيب شاغل خيالهم.

أما الشاب الثاني فالأغلب أنه لن ينفق وقته أو جهده في كتابة رسالة طويلة يستقصي فيها روحه، ويسكب فيها ولعه.

والأرجح أن يكون لديه من الجرأة ما يمكنه من اعتراض طريق محبوبته، تعبيراً لها عن مشاعره، أما إذا كان الشاب أكثر تهذيباً، فربما كتب لها رسالة إلكترونية (s m s) في كلمات قليلة، لا تكلفه جهداً أو وقتاً وسوف يغضب كثيراً إن لم يتلق رداً سريعاً، فيما يشتاط غضباً لو كان الرد سلبياً، وهو غضب يمكن ألا يكون نبيلاً، فلا يكتفي بالشجن الرقيق، ولا بالحزن الشفيف، بل يرد بإعلان مشاعر الكراهية، التي قد تصل إلى حدود الانتقام والتشهير.

إنه نوع من العنف النفسي يتدثر في ثياب العاطفة، وينجم، في الأغلب، عن قلق روحي وليس عن صفاء نفسي، عن ضيق صدر وليس عن رحابة قلب، عن رغبة في التملك وليس عن قدرة على العطاء، عن نزوع إلى السطو السريع على شخص آخر، وليس عن محاولة لاجتذابه بصوغ حالة التناغم الضرورية للذوبان الحقيقي فيه.

ومن ثم صارت القصص العاطفية في زمننا هذا قصيرة العمر وإن طالت، لا تنتج أثراً في الروح ولا تغييراً في معالم الطريق، على النحو المفترض من تلك العاطفة التي تمثل، حال صدقها وعمقها، عملية إعادة اكتشاف للذات الإنسانية، تقارب عملية إعادة الاكتشاف التي يقوم بها الإيمان الديني، فالإيمان والحب يصدران عن نبع واحد، ويعكسان القوة الروحية نفسها، مع تغاير وحيد في ذات المحبوب الذي تتوجه إليه كل عاطفة، فهي الذات الإلهية، المطلقة والمتسامية، في حال الإيمان، وهي الذات الإنسانية، الواقعية والدنيوية في حال الحب.