تزدهر الحرية عندما تصبح السياسة للجميع، ضمن فضاء عام يسوده الوعي وتظله المسؤولية، بما يفترضه ذلك من خلاف ممكن، وتعدد في الرؤى، يظل مقبولاً طالما خضع للمقدسات والمحرمات الوطنية التي يعلو منطقها على منطق الفئة أو الطبقة أو الطائفة أو العرق أو الإقليم الجغرافي، فتعدد الفاعلين يبقى مطلوباً ليكون ثمة «حرية»، مثلما يظل التوافق الوطني حتمياً لتبقى هناك «دولة»، وبغير تعدد في إطار التوافق إما أن تموت الحرية أو تذوى الدولة.

ولقرابة أربعة عقود عاشت الحرية في مصر مأزقاً كبيراً، بفعل الهيمنة السلطوية على العملية السياسية رغم الحيوية الفائقة للعهد الناصري، والتحولات الدرامية للعهد الساداتي.

وأما في الثلاثين عاماً الأخيرة، فقد بدت المشكلة أكثر عمقاً من قضية الحرية، وأصبحت هي قضية السياسة نفسها، حيث كانت القوانين المصيرية تصدر في غمضة عين، أو ظلمة ليل كالح، بعد فاصل من تصفيق حاد من نواب حزب مهيمن تصوت أغلبيته بشكل ميكانيكي، دون أدنى تعاطف مع تصورات الأقلية الرافضة لها ولو لمرة واحدة في أي قضية مهما كانت جماهيرية.

رغم أن القانون، أي قانون، لا يعدو أن يكون آلية تنظيم للحياة في كل مجال، لابد أن يحظى بالتراضي العام، الذي يفرض على من يصدروه أن يراعوا مصالح جميع الأطراف المعنية به.

أدى عدم الاستقرار الأمني إلى زيادة الانحطاط القيمي والأخلاقي، مثلما أفضى التراجع الاقتصادي إلى انفجار ظاهرة الفساد المالي والإداري، ومن ثم تحولت الأزمة الاقتصادية قبل 25 يناير، إلى أزمة حضارية شاملة فيما بعده، تعكسها ثلاث ظواهر راهنة في ظل حكم الإخوان المسلمين:

أولها حجم الإهمال والتراخي الكامن خلف الكوارث التي صارت تصفعنا يومياً وفي كل مكان، ناهيك عن حجم التعديات على القانون في شتى الصور وعلى كل الصعد، ما يشي بأن أحداً لم يعد يؤدي عمله ولو بدرجة متوسطة من الإتقان.

وثانيها العجز البادي في عدد القيادات التي يتوفر لها الطهارة مع المهارة، حتى صار العديد من المسؤولين يستندون فقط إلى طهارة اليد باعتبارها عملة نادرة يتم التضحية لأجلها بكل المؤهلات الأخرى. وثالثها التراجع الأخلاقي بين كل طبقات المجتمع، حيث سادت في ظل حكم الإخوان قيم كالاستعلاء واللامبالاة والبذخ والأنانية بين الطبقة العليا.

بينما يسود الصراع والتطاحن على التعامل بين فئات الطبقة الوسطى بفعل مشاعر القلق إزاء احتمالات الهبوط الاجتماعي إلى الطبقة الدنيا، وهو أمر حدث فعلاً لشريحة يعتد بها. وأخيراً تسود مظاهر السلوك المبتذل والقسوة المفرطة، وضمنها الجرائم الأخلاقية الشاذة، وصولاً إلى قتل الآباء والأمهات والجدات، بين الطبقة الدنيا خصوصاً بين المهمشين وساكني العشوائيات.

والواقع أن مصر، منذ الثورة الصناعية على الأقل، لم تكن بلداً غنياً أبداً، فلا هي حاضنة كبرى للموارد الطبيعية، ولا هي مالكة أساسية لزمام التكنولوجيا الحديثة.

غير أنها لم تكن بلداً متخلفاً بالمعنى الدقيق للكلمة، حيث أخذت تكتسب قيم الحداثة الثقافية منذ القرن ونصف القرن، واستوت لديها منذ القرن تقريباً طبقة وسطى حضرية دعمت حركتها نحو التمدن الذي نالت منه قسطاً كبيراً بحسب العديد من المؤشرات المرعية وبالقياس حتى إلى كثير من البلدان الأغنى منها.

هذا التمدن، هو ما كادت مصر تفقده في ظل حكم الإخوان، بفعل اضطراب شخصيتها الحضارية بين من فقدوا قيمهم الحديثة الراقية، ومن فقدوا قيمهم الأصيلة الموروثة، كالمروءة والشهامة، وأيضاً بفعل انفجار العشوائية التي لم تعد قصراً على مناطق بذاتها تحمل هذا الاسم المشين رسمياً، بل امتدت إلى شتى مجالات الحياة بها، فصار الناس يتحاورون صراخاً في الشوارع والطرقات وحتى في المنتديات التي كانت راقية.

لم يكن يكفي لتجاوز هذا الوضع اعتماد المداخل التقليدية مثل إطلاق دعوات أخلاقية، ولا الاستعاضة المتنامية عن قطاعات الخدمات العامة بتوفير السلع الغذائية في الأسواق، ما يمثل تمدداً خطيراً في المجال العام المدني على الطريقة الستينية.

وأما طريق الخروج الوحيد فهو ما تسلكه الحكومة حالياً بتوجيه من الرئيس عبد الفتاح السيسي وذلك باستعادة السياسة إلى قلب المجتمع وبثها في كل شرايينه، من خلال تعميم آليات الرقابة والتوازن في كل مناحيه، وانتهاج آلية الانتخابات لتنشيط الإرادة لدى مواطنيه.

وذلك على جميع الصعد بدءاً من أعضاء البرلمان على المستوى الوطني، وصولاً إلى العمد في القرى، مروراً بالمحافظين، ورؤساء مجالس المدن، والمجالس المحلية، بل ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات ولكن من بين أصحاب سير ذاتية محترمة تعتمدها لجان علمية محايدة ليكون الاختيار من بين أكفاء..

وهكذا من ممارسات تعيد تجذير السياسة في المجتمع، والحرية في النفوس، وحس المسؤولية لدى الجميع.