لا يختلف أحد على حقيقة أن الثقافة هي غذاء الروح وثراء الفكر، وأن القراءة هي الوسيلة الأولى للارتقاء الفكري والاجتماعي والعلمي والاقتصادي أيضاً، وهي كذلك مدخلنا إلى تفهم أنفسنا وما يدور حولنا بشكل أفضل، وبما أننا في توجه نحو تعزيز القراءة بين أفراد المجتمع، وجعلها عادة ووسيلة لبلوغ الأهداف والغايات، لا بد لنا أن نتفكر في تفاصيل القراءة والمحتوى المتوفر للصغار والكبار حتى يقرأوا.
قبل أسابيع قليلة أطلقت في الشارقة من خلال «ثقافة بلا حدود» مبادرة جديدة بعنوان «ألف عنوان... وعنوان» بالتعاون مع جمعية الناشرين الإماراتيين، ووزارة الثقافة وتنمية المعرفة، وكان الهدف الأساسي من فكرة إطلاق هذه المبادرة هو المساهمة الفاعلة في إثراء النتاج الفكري الإماراتي نوعاً وكماً.
من خلال تشجيع الكُتّاب الإماراتيين وتقديم الدعم المادي لهم للعمل من خلال دور نشر إماراتية على نشر مؤلفات وكتب جديدة تحاكي ماضينا وحضارتنا وواقعنا ورؤيتنا الإماراتية نحو المستقبل لنثري بها مكتباتنا وعقول أبناء وطننا.
في الحقيقة أن فكرة هذه المبادرة لم تأتِ صدفة بل جاءت نتيجة دراسة طالبت بها وأشرفت عليها بها بصفتي المؤسس والرئيس الفخري لجمعية الناشرين الإماراتيين، كنا نريد أن نتعرف بالأرقام والحقائق على أبرز التحديات التي تواجه صناعة النشر في دولة الإمارات العربية المتحدة، والوصول إلى فهم أعمق للمشكلات التي تواجهنا كناشرين وكصناع للمعرفة.
النتائج التي خرجت بها الدراسة لم تكن بقدر الآمال، ولم تعكس بشكل جيّد الجهود التي تبذل لدعم لغتنا العربية وثقافتنا الإماراتية، وخلال فترة رئاستي لجمعية الناشرين الإماراتيين على مدار أربعة أعوام.
لاحظت أن هنالك تراجعاً سنوياً في أعداد الإصدارات السنوية من قبل دور النشر في الدولة، ووفقاً للدراسة تبين لنا أن مجموع الكتب المسجلة سنوياً في دولة الإمارات منخفض إلى حد كبير، وواصل الانخفاض في مجموع الكتب ليصل بعد عامين من تاريخ الدراسة إلى 340 عنواناً فقط سنوياً بعد أن كان 431 عنواناً حينها.
ومع معدل التراجع هذا، الذي يستوجب التوقف عنده وبذل مزيد من الجهد، يجب علينا أن ندعو إلى إحداث تغيير حقيقي في صناعة النشر من أجل دعم ثقافتنا والحفاظ على ما لدينا من تراث فكري وإبداعي، الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال صناعة النشر، التي يجب أن ننظر إليها كمنصة تنطلق منها مختلف ألوان الفكر والإبداع، ووسيلة أساسية لإثراء ثقافتنا ورسم صور حية لماضينا وحاضرنا، وصياغة تصور مشرق لمستقبلنا.
وما أثار انتباهي واهتمامي أيضاً هو أنه على الرغم من وجود انخفاض في عدد الكتب المنشورة، إلا أنه كانت هناك زيادة ملحوظة في أعداد الناشرين في دولة الإمارات العربية المتحدة، فما الذي كان يحدث؟ في الحقيقة لم يكن من الصعب معرفة السبب، وهو أن ناشرين من دول أخرى، مثل لبنان وسوريا، قاموا بتأسيس دور نشر في دولة الإمارات.
حيث جذبهم الفكر الريادي لدولة الإمارات وما تبنته جمعية الناشرين من استراتيجية داعمة لصناعة النشر والعاملين فيها من مختلف الجنسيات، إلى جانب التسهيلات المقدمة لهم، في الطباعة والتوزيع بشكل خاص.
وتبين من خلال نتائج الدراسة أن العديد من الناشرين في الإمارات اختاروا الحصول على الرقم الدولي المعياري لكتبهم (ISBN) من دول مجاورة، وخاصة لبنان كون الرقم الدولي فيه يمنح مجاناً، ولهذا فإن هذه الكتب، رغم أنها نتاج مؤلفين وناشرين إماراتيين، إلا أنها سجلت تحت الملكية الفكرية والثقافية لجمهورية لبنان.
ومنذ ذلك الوقت ونحن نعمل في جمعية الناشرين الإماراتيين على زيادة الإنتاج من الكتب الصادرة في دولة الإمارات، فطورنا برامج تدريب لهؤلاء الناشرين، ووجهنا لهم الدعوات لحضور معارض الكتب الدولية، كما وفرنا لهم سبل الدعم لمساعدتهم على طباعة إصداراتهم ونشرها وبيعها بسهولة، ليس في أسواق الدول العربية فقط، وإنما في مختلف أسواق العالم.
وبعد كل هذا الجهد والعمل، لم يكن التغيير بقدر المطلوب، هنا قد تبدو هذه المشكلة بسيطة للبعض، ولكنها في حقيقة الأمر مشكلة كبيرة تستوجب الاهتمام والتفكير من أجل الوصول إلى حلول فعّالة لها.
وبعد أن أعلن صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، عن مبادرته لتخصيص عام 2016 عاماً للقراءة في الإمارات، تم إطلاق العديد من المبادرات التي تشجع الأطفال والكبار على القراءة، ولكن السؤال الذي يجب أن لا يقل أهمية عن فكرة القراءة نفسها، ما الذي يقرأه الأطفال؟ وما هو المحتوى الذي سيعلق في أذهانهم وتبنى عليه أفكارهم؟
فإذا كان عدد الناشرين المحليين آخذ في الانخفاض وكذلك عدد الإصدارات الإماراتية، فإن هذا لا يعني سوى شيء واحد، وهو أن ما يقرأه الإماراتيون من كتب وقصص قادم إلينا من دول وثقافات أخرى، والكثيرون للأسف لا يشعرون بذلك، بل يعتقدون أنها نتاج عقولنا ومفكرينا.
وهنا في هذا الوقت بالذات الذي تكاد تتلاشى فيه الحدود الفاصلة بين الثقافات واللغات، تصبح المشكلة الحقيقية هي مشكلة الهوية، الهوية الفكرية والثقافية!
هل يجب علينا أن نقرأ قصصاً عن الآخرين لنرى من خلالها أنفسنا؟ هل نقرأ عن الأحداث التاريخية السياسية والاجتماعية والثقافية للآخرين وننسبها إلينا؟ ماذا عن تاريخنا وحاضرنا وآرائنا وأفكارنا؟ ألا يجب أن يعرفها أطفالنا؟ ألا يجب أن يقرأ أبناؤنا كتبنا وقصصنا ويناقشونها في المدارس والأندية؟
نحن مطالبون بتوفير محتوى يعكس صورة أوضح لواقعنا، ولذلك نحن بحاجة إلى كتب وقصص يخط سطورها مبدعون ومفكرون إماراتيون، وإذا أردنا هذا، ألا ينبغي علينا احتضان هؤلاء المبدعين والمفكرين، وتوفير كل أشكال الدعم لهم وتشجيعهم؟ كيف لا... وهم بأقلامهم يرسمون لنا صورة عن عالمنا، صورة تعكس هويتنا، صورة تقول للعالم من نحن ومن نكون، ما الذي يضحكنا ويبكينا، ما الذي نأمله، وما الذي نخشاه، صورة تعكس في طياتها آلام الأمس وأفراحه وأحلام اليوم وآمال الغد.
أعلم أنها تساؤلات كثيرة، لكنها ملحة إذا ما تفكرنا بها قليلاً ونظرنا من خلالها نحو المستقبل، ولهذه الأسئلة بالتحديد، ولكي نجيب عليها بفعل وليس بقول، أطلقنا مبادرة «ألف عنوان.. وعنوان»... التي تهدف إلى عرض صورة حية لما نحن عليه الآن، وما كنا عليه من قبل، وما نطمح أن نكون عليه في المستقبل، من خلال مؤلفين وكتاب إماراتيين.
سنعمل عبر مبادرة «ألف عنوان.. وعنوان» خلال العام الجاري والعام المقبل على تكريس كل الجهود الممكنة لدعم وتشجيع الناشرين والكتاب الإماراتيين ليخطوا بأقلامهم ويرووا بأصواتهم كتباً تحاكي ثقافتنا وأحلامنا.
ولكي نحقق ذلك، خصصنا منحة قدرها خمسة ملايين درهم، يمكن من خلالها للناشرين تقديم مساعدة للكتاب والمؤلفين الموهوبين، لكي تصل إلى مسامعنا قصص وأعمال المواهب الأدبية والفكرية والعلمية في وطننا الحبيب.
ومن جانبها، تبرعت وزارة الثقافة وتنمية المعرفة بعدد 1001 رقم دولي معياري لدعم هذه المبادرة، كما أن الشركة المتحدة للطباعة والنشر، شريكنا في هذا المشروع، قدمت أيضاً خصومات كبيرة على خدمات الطباعة والتخزين.
ولهذا آمل أن يصبح لدينا مع نهاية هذا المشروع ليس فقط ألف قصة وقصة جديدة لنحكيها، بل ألف فكرة وفكرة مبتكرة، وألف موضوع وموضوع لنناقشه، بحيث نؤسس لمحتوى فكري إماراتي لأجيال المستقبل في الإمارات.
الفرصة الأكبر للاستفادة من القراءة تكمن في أن نقرأ ما يسرده أبناء وطننا عن قصصنا، وبتلك الأقلام والكتب يمكننا أن ننشر ثقافتنا وأفكارنا سواء في بلدنا أو في الخارج، وهنا يحضرني مقولة الأديب والفيلسوف الإيطالي الكبير أمبرتو إيكو، الذي رحل عن عالمنا أخيراً، «من أجل البقاء... علينا أن نروي قصصنا».