واحدة من أهم النصائح التي كنا ننصح بها الصحافيين الجدد هي تلك التي تتعلق بالطريقة التي يتعين أن يتصرفوا بها أثناء المقابلات.
كنت أقول للصحافي: «لا تحاول أن تثبت للمصدر أنك تفهم». لا تحاول أن تثبت أياً كان هذا المصدر، أنك مثقف مثلاً أو مطلع، لست مطالبا بإثبات أي شيء عن نفسك للمصدر ولست مطالبا بالحديث عن نفسك والأفضل أن لا تحاول أبداً.
وعلى عادة العرب، كان غالب الصحافيين يتظاهر بالفهم والقليل منهم كان يسأل ويحاول أن يفهم المغزى وراء هذه النصيحة. لن ندرك مغزى النصيحة إلا إذا استذكرنا المعنى الأصلي لأن تكون صحافياً. فالصحافي إذا حاول أن يثبت لمن أمامه انه يفهم فلن يطرح الأسئلة التي يتعين أن يطرحها.
فإذا قال له المصدر: «تعرف أن هذا الموضوع ليس بجديد»، وقام الصحافي بدافع التظاهر بالفهم وأجاب: «نعم.. بالتأكيد أعرف ذلك» فهو قد فوت على نفسه فهم بعض الخلفيات عن الموضوع الذي يسأل عنه ولربما فوت على نفسه أيضاً معلومة خافية.
فهو ـ بدافع التظاهر بأنه يفهم ـ لم يهتم في تلك اللحظة بسماع معلومات بل بالسعي لترك انطباع حسن عن نفسه أمام محدثه. في الغالب وجدت أن معظم الصحافيين يتظاهرون بالفهم والمعرفة أمام ملاحظة مثل هذه وغيرها والنتيجة هي أن ثمة معلومات ناقصة دوماً في مقابلاتهم أو تقاريرهم.
هذا الخيط الرفيع بين «موجبات المهنة» وبين «الدوافع الشخصية» بات غائباً تماما في العقود الأخيرة لدى أجيال من الصحافيين العرب لا الجدد بل حتى المخضرمين. لا يتعلق الأمر بالمقابلات وحدها، بل يمتد ليشمل المناسبات التي يجد فيها الصحافي نفسه مع آخرين سواء في مؤتمر صحافي أو تغطية لحدث ما.
والملاحظة السابقة تنطبق أيضاً على سلوك الصحافيين أمام زملائهم في مناسبات مثل المؤتمرات الصحافية. فغالباً ما يميل بعض الصحافيين إلى تمييز أنفسهم عن زملائهم أبعد من التعريف بأسمائهم والجهة التي يعملون بها.
لا يخلو الأمر من الطرافة، فذات مرة زاد أحدهم بعد أن عرف نفسه والصحيفة التي يعمل بها بالقول: «ماجستير في الصحافة»، لكنه طرح سؤالاً تمت الإجابة عنه في معرض الإجابة عن سؤال آخر سبقه. وكان ثمة زميلة متباهية دوماً تقدم نفسها باستفاضة دفعت زميلة أخرى للتعليق مرة: «ناقص بس تقول تعالوا اخطبوني».
يضيع ذلك الخيط الفاصل بين موجبات المهنة والدوافع الشخصية من جديد لدى الصحافيين في تغطيات الأحداث أيضا بأكثر من صورة. ففي الغالب، يجد الصحافيون أنفسهم في مواجهة أحداث ومواقف تمتحن عواطفهم ومشاعرهم دوماً بطريقة تدفعهم لنسيان القاعدة الذهبية حول «عدم الوقوع في غرام المصادر» أياً كانت هذه المصادر حتى الضحايا.
يواجه الصحافيون أيضاً امتحاناً آخر أكثر صعوبة عندما يشعرون دوماً أنهم مطالبون بإثبات حسن نواياهم أمام الآخرين. مثال التظاهرات قد يكون شاخصاً لأن المحتجين دوماً وبمشاعر هياج لا يخفى، ينظرون بتشكك للصحافيين خصوصاً من مواطنيهم فيما يعتبرون الصحافيين الأجانب وبالضرورة متعاطفين معهم مسبقاً.
غالب الصحافيين يقع في خطأ محاولة إرضاء المحتجين أو السلطات بأسلوب صياغته للخبر أو التقرير.
الخيط الرفيع بين «الموجبات المهنية» و«الدوافع الشخصية» له وجه آخر داخل المؤسسات الصحافية متصل بصميم العلاقة اليومية بين الصحافيين ومسؤوليهم.
ولأن التظاهر بالمعرفة متأصل لدى الصحافيين العرب (بدأت أميل للاعتقاد بنظريات عنصرية ترد هذا الميل إلى الجينات)، فإن الموقف المتكرر بين المسؤول والصحافي هو ذاك المتعلق بلحظة تصحيح أو إعادة صياغة خبر أو تقرير أو تحقيق للصحافي.
ثمة جواب «جاهز/ متكرر/ متأصل/ راسخ/ أبدي/ أزلي» خالد خلود الدهر لا يتغير على لسان ذكر أو أنثى وبنفس ترتيب الكلمات ونفس نبرة الصوت التي تنطوي على جرعة خفية من التفاخر: «كنت أريد أن أكتب هذا الذي كتبته أنت لكنني فكرت أنكم لا تريدون هذا الأسلوب».
عندما يتكرر هذا الجواب على مدى عقود فإن في الأمر خللاً جسيماً جداً قد لا يتعلق بالضرورة بالصحافيين فحسب لكن بمؤسساتهم في المقام الأول.
ماذا يجد الصحافيون الشبان عندما ينضمون لأي مؤسسة صحافية؟ دون إطالة: «في الغالب.. لا يجدون شيئاً يجنبهم الوقوع في كل ما سلف».