لغة السردية الافتراضية وخطاب التغريدات

حياتنا ومشاعرنا وحواسنا وأفكارنا ولغتنا وطرائق التعبير عن ذواتنا تغيرت بعد الثورة الرقمية الهادرة وتحولاتها، بل إن الهوامش بين الواقع الفعلي والافتراضي تضيق على نحو متسارع، وبات التفاعل بين كليهما أكثر دينامية، والسؤال: ما الذي أحدثته الثورة الرقمية في الحياة العولمية وما بعدها؟

نستطيع أن نحدد بعضاً من هذه التحولات الكبرى فيما يلي:

1 - بناء مجال عام رقمي كوني، وإقليمي، ووطني يتسم بقدر كبير من التداخل والتأثير والتأثر في المجالات العامة الفعلية، وباتت القيود على المجال العام الفعلي تتسم بالضعف والهشاشة ومجافاتها للتقنية المتطورة وثورة التعبير عن الذات التي فاقت كل الحدود المتخيلة، وكشفت عن فجوة في الإدراك والعقلية والرؤى بين الأجيال المختلفة.

2 - إعادة بناء خرائط الهويات في عالمنا، وإحياء ودعم هويات بعض المجموعات البشرية العرقية واللغوية والقومية والدينية والمذهبية، التي كان بعضها يتآكل على نحو سريع خلال عقود عديدة. وساهمت المواقع والأبنية الرقمية في إعادة توزيع بعض الكتل الاجتماعية والهويات الوطنية الجامعة وتآكل وانكسار بعضها، لصالح هويات نوعية، وذلك كجزء من تفاعلات وتغيرات الشرط ما بعد الحديث، وما بعده.

3 - حريات بلا حدود، وعلى رأسها الحرية الأم: الرأي والتعبير بلا قيود من خلال المدونات، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الإباحية التي تعيد تشكيل هذه الدوافع وتحويلها وفق بنى من التصورات غير المألوفة، لاسيما في المجتمعات التي تسودها المحرمات والأفكار التقليدية والدينية إلى جانب نثارات الحداثة والتحديث، وانعكاس ذلك على أنظمة الأسرة والعلاقات القرابية... الخ.

انفجار في المواقع حول السينما والمخرجين ومدارس الإخراج العالمية، والمسرح والأوبرا، والأغاني والموسيقى والمطربين والمطربات، وقادة الأوكسترات الكبرى والعازفين من المبدعين، وكبار الفنانين التشكيلين... الخ. أصبح يوتيوب وفيسبوك، وسواها تشكل ذاكرة الإنسان والبشرية.

انكسرت أيضاً الأطر الرمزية للمجموعات والكتل الكبرى لصالح المجموعات الأصغر ورمزياتها وتاريخها ومحمولاتها، ورأسمالها الرمزي والتاريخي حول العرق واللغة والمنطقة والعائلات والصداقات والفرد.. الخ توزيعات لا حدود لها، وتتكاثر وتتشظى وتتنوع من بعضها.

والسؤال الثاني ما تأثير الثورة الرقمية على اللغة والخطابات الرقمية؟

عديد التأثيرات نرصد بعضها فيما يلي:-

1 - تشكل أنساق من اللغة الرقمية، يغلب عليها الانطباعات السريعة والسانحة، واللغة المحلية العامية، وبعضها جارح في التعبير عن الرأي، لكنها صريحة وجهيرة وترمي إلى نزع الهيبة، وتمزيق أقنعة السلطة عن بعض رجالها البارزين، وهي تعبير عن انكسار حواجز الخوف والرهبة.

2 - اللغة الرقمية الجارحة ترمي إلى تحرير لغة السياسة من جمودها وطابعها الفوقي والاستعلائي والشعاراتي والتعبوي والخشبي، والتعميمي.

3 - تحرير لغة السياسة والخطاب السياسي والاجتماعي السلطوي والفوقي من أسفل، من خلال بلاغة السخرية والهجاء لمكانة السلطة، ونزع القداسة وأشباهها التي تحيط بها. هي لغة تحريرية هجومية، لكنها في ذات الوقت رد فعل على السلطة في عديد الأحيان.

4 - اللغة الرقمية تتواشج فيها الأرقام مع الحروف، وتستبدل بعضها بعضاً وهي سريعة وموجزة وتهدف إلى اختصار الوقت في عملية التواصل، وبعضها أقرب إلى ضربات الملاكمة الخاطفة.

5 - هي لغة تجري على عديد المحاور أولها الحشد والتعبئة، وتهدف إلى التأثير في السلطة، أو أحد شخوصها أو أجهزتها أو قراراتها.

6 - هي لغة تجمع بين تجسيمات خطوط الكاريكاتير ولغته الساخرة، ومفارقاته ومبالغاته وتناقضاته التي تفجر الضحك.

7 - لغة مطلبية، تدور حول الإفراج عن بعض المعتقلين، والمحبوسين احتياطا على ذمة قضايا أو الصادر ضدهم أحكام، بهدف الإفراج عنهم، أو المطالبة ببعض المزايا الفئوية من بعض المجموعات العمالية أو الموظفين أو نقد بعض مشروعات القوانين.

8 - لغة تدمج أحياناً بين ما يحدث في العالم ومقارنته بأوضاع قائمة لكن من خلال مماثلة تغفل الخصوصيات، وتقارن بين بعض الأمثلة من خلال القياس الذي لا يؤسس على شروطه.

9 - لغة تحيط باليومي والمشهدي والخبري في حياة الناس الواقعية/ الفعلية بحيث يتداخل الفعلي مع الرقمي/ الافتراضي، حول الأخبار- بعضها غير دقيق أو كاذب أو يستهدف أحداث ارتباكات أو يرمي إلى تغيير مواقف.. الخ.

10 - هي لغة بث للأخبار والوقائع والحرائق والعمليات الإرهابية، والكوارث الطبيعية والأدبية وخطابات الساسة، والمؤتمرات والمهرجانات ومباريات الكرة وغيرها من الرياضات، هي لغة تواصل كوني تربط بين زمن الحدث وزمن الصورة. هي لغة تعبر عن مجتمع المخاطر الكوني بتعبير أولبريخ، هي في أحد مصادرها لغة حاملة للخوف الكوني.

11 - هي لغة انفتاح على العالم الكوني، إلا أنها في بعض مواقعها لغة انغلاق حول مواقع لجماعات تحركها اهتماماتها المشتركة.

12 - هي لغة تعبر عن حالة الفوضى النسبية والسيولة والتحولات التي تعتري حياتنا، ومواقفنا، ورغباتنا، ومخاوفنا، ورعبنا، وغواياتنا، وبذاءاتنا، وأكاذيبنا، وبعض حقائقنا، ودواخلنا، وتعصبنا؛ هي لغة أساطير وأوهام.. الخ!

 

الأكثر مشاركة