تعتبر اليونان مسقط رأس الحضارة الغربية. وهي أيضاً مهد الأزمات التي تهدد كل دولة غربية تتجاهل الإصغاء لما يحدث فيها.
السير في أرجاء العاصمة اليونانية بعد ظهيرة يوم مشمس لا يظهر للمراقب العادي أن هذه البلاد المذهلة بجمالها الطبيعي تتصارع مع أزمات خطيرة من صنع الإنسان. الاشتباك بين الأضداد القدماء والجدد، المكلف وغير المكلف، السكان الأصليين والمهاجرين والاحتجاجات والاحتفالات تمنح المكان حركة كبيرة.
وهناك إحساس يتولد من الحديث مع الناس بأن الأزمات هي الوضع الطبيعي الجديد، وأن كثيرين باتوا يتبنون وضعاً كان من المفترض أن يقود منذ أمد طويل إلى ثورة من نمط ما.
الناس هنا لا تثور. القوانين الأوروبية المتعلقة بحركة الناس الأحرار تتيح للمواطنين اليونانيين تلك الفرصة. معدل البطالة في اليونان على غرار ما وصل إليه في نوفمبر الماضي بلغ 24.6%. وبكلمات أخرى هي بطالة الأشخاص الذين لايزالون يبحثون بعناء عن وظيفة ما، فربعهم لا يستطيعون العثور على فرصة عمل. إذن ماذا يعملون؟ الشباب يهجرون البلاد إلى دول أخرى سعيا للتوظيف أو التدريب. آخرون يبقون ويعيشون مع العائلة أو يعتمدون على الدعم الحكومي ويأملون أن تتغير الأمور في النهاية.
وبينما تسمح العولمة لليونانيين بالهروب في حال اختاروا ذلك، إلا أن هذا الأمر شكل حافزا لانتشار المشكلات في البلاد. اليونان كانت على ما يرام عندما عملت المؤسسات الحكومية والاجتماعية في فترة فراغ السلطة. ولم يكن هناك من شيء ينافسهم.
الدولة كانت أكبر موظف للأفراد، وتمكن الناس في حينها من التقاعد في سن مبكر كالخمسين. وامتلكت الاتحادات سلطة لا يمكن تصديقها. وأصبح بالإمكان السيطرة على كل شيء من قبل النخبة المحسوبة على السلطة.
ولكن أصبح العالم أصغر بسبب العولمة والتكنولوجيا والتجارة، وأصبحت الحدود عقبة أصغر، وأصبح المحرك الاقتصادي لدولة الرفاه هذه محركاً كبيراً. وانتقلت آلاف الشركات اليونانية إلى بلغاريا ومناطق أخرى من العالم.
وفي غضون الوقت الراهن، لا تعتبر اليونان الجبهة الأمامية لتدفق اللاجئين الفارين من الحرب التي قسمت الشرق الأوسط. وإضافة إلى ذلك هناك الكثير من القضايا الاجتماعية التي يمكن أن تضاف إلى النظام المثقل بالفعل.
وحتى في خضم هذه القلاقل كانت هناك مسألة أخرى ظلت تشغل بال الناس، أقصد بذلك: دونالد ترامب. الكثير من اليونانيين لا يعرفون ماذا يفعلون به أو بشعبيته المتصاعدة في أميركا. كما أنه ليس لديهم فهم دقيق لمواقفه.
وكرر أحد الأشخاص ملحاً أن ترامب يحب "الحرب"، على الرغم من مواقفه السياسية الخارجية المبالغة في عدم التدخل. وظل آخرون يرددون أن ترامب شخص "خطر" في إشارة إلى طريقته المباشرة في الكلام. ما الخطر؟ أوضحت ذلك قائلا: عندما يسمح بتلفظ التفاهات فقط في الخطاب العام، حتى عندما تتشتت الأشياء.
طريقة ترامب الصعبة في الحديث هي علامة بارزة عند مخرج دزاستر فيل. جماليات الدبلوماسية عبارة عن فخامة تزول عندما يشعر جمهور الناخبين باليأس. وفي حال لم يكن هناك نظام قيادة شبيه بنظام ترامب، فإن تلك الإحباطات في السياق الديمقراطي تكون مقبولة، ومن ثم فإن الحركات الشعبوية مثل تلك التي رأيناها في أوروبا، أخيرا، أصبحت تملأ الفجوة.
وقارنت إحدى النساء اليونانيات ترامب مع رئيس الوزراء الإيطالي السابق سلفيو برلسكوني، وهو صاحب المليارات الذي خدم أربع فترات رئاسية. وقالت مبتسمة: "على الأقل نحن الأوروبيون نسبق الأميركيين بشيء ما".
إلا أن ترامب يمثل شيئا أكثر أهمية، ويبدو أنه يجعل الجميع هنا يهربون: إن مصالح الفرد فوق مصالح من هم في السلطة. وخلال المناقشات بشأن مشكلات اليونان، فإن هذه نادراً ما تشكل أفكار السلطة الفردية والمسؤولية الفردية أكثر من أي وقت مضى. إلا أن هذه الأفكار قد تكون الأمل الوحيد لتكوين رؤية طويلة الأمد في هذه البلاد.
ولضمان ذلك، يجب أن يحدث تغير ثقافي كبير ترافقه إعادة صياغة كاملة لمؤسسات البلاد. ويجب على اليونانيين أن يكونوا أشداء في سن صغيرة بشأن ريادة الأعمال وحرية الابتكار والمبادرة بأنفسهم. ويجب على الحكومة اليونانية تمهيد الطريق لهم لفعل ذلك.
ويجب أن يكون هناك تغير في العقلية الوطنية، ويجب أن يستهل ذلك في الحكومة بنفسها. وبدلاً من الشعور بضرورة دعم المواطنين من المهد إلى اللحد، يجب على القيادة اليونانية أن تحملهم مسؤولية أكبر لرعاية أنفسهم.
النمو لن يأتي من نوع من التوجيه الوطني والأوروبي الذي خنق الناس على أيدي الطبقة السياسية. الفرد هو الوحدة التي توجد القيمة. لماذا لم يتم تدريس هذا الأمر هنا؟ ومن المحتمل أن يكون النظام راسخاً جداً بحيث لم ينظر أحد في بديل له.
وقد يكون الأمر أن الفكرة النابعة عن كفاءة الفرد ستضعف سلطة النخب الحاكمة. وليس من الغريب عندئذ أن الكثير من اليونانيين يعتقدون بأن النمط المستقل لرائد الأعمال دونالد ترامب قد يشكل خطراً على الناس.