في هذا العالم الواحد، يبدو أحيانا أن السباق جار بين من أسندت السلطة إليهم، أخيرا، وبين من أبعدوا عنها حديثا. والحقيقة هي أن هذين الأمرين لا يحدثان في الوقت ذاته فقط وإنما يعد أحدهما شرطا لحدوث الآخر.
ويعد رد الفعل المفزع والمخيف على الظلم المتفاقم والتفكك الاجتماعي وفقدان الهوية في خضم الايجاد الواسع للثروة والمرونة غير المسبوقة والتواصل الهائل تمردا على العولمة شديدة الجرأة والتغير التقني السريع جدا بحيث إن طبيعتنا التدرجية لا تستوعبه. وفي هذا الزمن المتسارع، فإن الصدمة المستقبلية يمكن أن تكون لطمات متكررة في الحاضر للأفراد وللعائلات والمجتمعات على حد سواء.
وفي المقام الأول، فإن العالم الظاهر أمامنا يبدو غير مألوف بالمرة، ويشكل انقطاعا مع أي امتداد من الماضي يمكنه أن يؤطر سياقا مطمئنا يمضي إلى الأمام.
الفلاسفة والمفكرون الاجتماعيون لاحظوا منذ زمن بعيد العلاقة بين مثل هذا القلق أو الاحساس بالتهديد والتحصين التفاعلي للهوية. وكلما كان تهديد العنف أو الاضطرابات أو الاقصاء أكثر جمودا، أصبحت الهويات أشد تصلبا وميلا للعزلة، وذلك على غرار ما لاحظه أمارتيا سين في كتابه الرائع «الهوية والعنف».
التهديدات الحادة أو إدراكها يخفف التأثيرات العديدة الأخرى في حياة الأفراد والمجتمعات على السواء، وتوجهنا نحو الأهمية الوجودية تحديدا. وعلى عكس ذلك، فإن الاستقرار والأمن والشمولية تولد هويات ذات أبعاد متعددة.
لقد رأينا كل هذا من قبل. ففي أوائل القرن العشرين ساد التفاؤل، وتجلى بشكل رائع في مطلع القرن في المعارض العالمية، نتيجة القفزات الكبيرة في التصنيع والتحضر والطاقة والتواصل والنقل والتحول في الأملاك والأجهزة الموفرة للعمالة.
ولكن هذا البريق أخفى القلق والرفض، فيما قلبت أنماط الحياة المستقرة على امتداد امبراطوريات أوروبا واستؤصلت. النخب والجماعات على السواء سعت إلى الملاذ في القومية أو التضامن العرقي أو الانتماء الطبقي.
وفجأة في صيف عام 1914 انفجر كل ذلك وجاء في الحرب العالمية الأولى، التي انتهت بمقتل ستة عشر مليون شخص، وذلك فقط من أجل تمهيد حجر الأساس للكارثة المقبلة التي أتت بعد أقل من عقدين من الزمن والتي وصلت إلى ذروتها في قارة ممزقة والدمار النووي للمدن اليابانية.
الدرس هنا هو أن المنطق الاقتصادي والتقني، الضاربة جذوره في الهوية وطرق الحياة المغروسة في الأفراد المنتمين إليه، يعمل على مسار مختلف عن المنطق الاقتصادي والتقني.
وأظهرت التجربة التاريخية على نحو مؤسف مرارا وتكرارا أن المنطق الأساسي للعملية السياسية لا يتعلق بالخطاب العقلاني، بل بالأصدقاء مقابل الأعداء، ونحن مقابل هم. الأمر يتعلق بتنظيم بقاء وازدهار المجتمع، الذي يعرف على أساس اولئك الذين ليسوا جزءا منه. السياسة التي عرفناها حتى اليوم متجذرة في أرض خاصة، وليس في الأراضي الكونية الإنسانية ككل أو في «الصالح العام».
وبينما يعتبر من الصحيح أن الثقافة ليست سكونية أبدا، فإنها دائما ما تدخل في أنماط مهجنة جديدة عبر التفاعل مع الثقافات الأخرى. إلا أن الاندماجات والاحتكاكات لا تتوازن. وما يبدو أنه تلاقح يمكن أن ينتهي إلى كونه «سطوحا مستعارة»، بينما في حال كان مصطلح «روح الشعب» المستمد من الألمانية أعمق أو يشكل قيما غير متكافئة وطرق حياة تعتبر جزءا لا يتجزأ من القبيلة أو الأمة، فإن ذلك يظل أساسا للهوية.
هذا يبرر المفاجآت التي تعرض لها الغربيون وذات الصلة بالحداثة غير الغربية في أماكن مثل الصين الكونفوشيوسية الجديدة أو تركيا العثمانية الجديدة، التي لم تتطور بناء على التوقعات بأن تصبح «مثلنا» بل رسمت مستقبلا متجذرا في ماضيها.
وتنطوي الحداثة على الإيمان الأسطوري بالتغيير، إلا ان التغيير ليس أفضل من الإصرار على النظام التقليدي. وكل ما نعلمه هو أن الحالات الأوضح في الوجود، سواء التي تتعلق بالماضي المثالي أو المستقبل الطوباوي، أو الأجناس أو الأديان هي في النهاية شمولية وتتصارع مع الاستعداد المتنوع للطبيعة البشرية.
وعلى غرار ما رأينا في بروكسل وباريس ومناطق أخرى من العالم، فإن هذا التأكيد الدفاعي للهوية يجذب أيضا أبناء المهاجرين المسلمين الذين لم يتم استيعابهم في أوروبا. والصدر المرحب لمثال الإسلام النقي هو جذب طبيعي بالنسبة لأولئك الأفراد المغتربين الموجودين على حدود المجتمع والمدفوعين مثل كثير من الأجسام المنفصلة. والمتشددون الذين يأتون من داخل الغرب لا يختلفون عن رجال دوستويفسكي «الزائدين عن الحاجة» الذين أتوا في أواخر القرن التاسع عشر من روسيا وتحولوا إلى الارهاب العدمي.
الأمر يمثل أيضا مسألة نطاق بالنظر إلى تجذر القيم والعادات في فضيلة المكان المتعلقة بالأرض. وقال باسكال لامي، الذي ترأس منظمة التجارة العالمية بين عامي 2005 و2013: «هناك تضارب بين منافع العولمة من جهة والقيم المشتركة بين المجتمعات المتعددة من جهة أخرى»، وأضاف: «فوائد العولمة تتناسب مع القوة ومع الحجم. وكلما زاد حجمها أصبحت أفضل بسبب وفورات النطاق. الكبير جميل. الهوية والشرعية والسياسة تتماشى مع القرب، مع النطاق الصغير، والصغير جميل».