لا مراء في أن الإبداع بات لغة لعصر، ولم يعد فيه مكان للنمطيين في أحلامهم وطموحاتهم، للنمطيين في طرق تفكيرهم أو إداراتهم، للنمطيين في مواجهة التحديات وطرح الأفكار.

ولأننا نعيش عصراً تتسارع فيه وتيرة الحركة في كافة الاتجاهات، وعلى مختلف الأصعدة لم يعد فيه للتفكير النمطي مكان، ولأن التفكير رياضة ذهنية تنمو وتزدهر برعايتها والعمل على تعميقها وصقلها كان لزاما أن يكون ذلك منذ مراحل التعليم الأولى حتى يصبح الإبداع والابتكار جزءاً من النشاط اليومي للفرد، ذلك أن القوة البشرية القادرة هي الثروة التي تدور معها ومن حولها باقي الثروات وهي من يكتشفها ومن يعظم من قيمتها ومن سبل الانتفاع بها وتسخيرها لما فيه الخير والنماء.

والابتكار يجعل للحياة معنى، ويجعل صاحبة يعيش دائما تجارب هو ذاته لم يتوقعها، إنها الأمل أو لحظة النجاح التي لم تأت بعد، كما أنه لا يرتبط بسن محددة ولازمان ولا مكان

كل ما يحتاجه أن يجد الفرصة التي تتاح له، وهي ما تسمى لحظة التنوير حين يمسك بالحقيقة، كما إنه يحتاج إلى من يلتقط الفكرة ويدفع بها، والمبدعون هم من تدين لهم البشرية جمعاء، وهم رأس الحربة في مسيرة البناء باعتبارهم من فتحوا الباب لمن بعدهم ومهدوا الطرق للسير.

ولأن الإبداع أصبح حاجة ملحة، وبخاصة في المجتمعات التي اعتمدته في كافة أنشطتها، فقد أحسنت كلية التربية والعلوم الأساسية صنعاً حين جعلته عنوانا للملتقى التربوي الثالث بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا، في شراكة محمودة وحتمية مع العاملين في الحقل التربوي من مديري المدارس والأساتذة المعنيين بمراحل التعليم الأولى، وهو دور مهم للجامعة كبيت للخبرة.

كما إن مخرجات المراحل الأولى من التعليم هي التي تبني عليها الجامعة مخرجاتها، والتواصل أمر ضروري باعتبارها حلقات تربط بعضها البعض، والتناغم والتكامل بينهما هو الخيار الأفضل والأوحد، وفي تقديري أن الإبداع والابتكار يخرج من بوتقة الحاجة التي هي أم الابتكار.

ألم يكن الفتيان في زمان فات يتحايلون على ضيق ذات اليد بابتكار أدوات لعب خاصة بهم أسعدتهم، والسعادة لم تكن باللعب بقدر ما هو بالشعور بأنك إنسان حي ومنتج.

لذا وكما أكد رواد الملتقى من أن الإبداع والابتكار اليوم أصبحا أساسيين في تمكين الطلبة من مواجهة تحديات المستقبل، وما يحمله من تخصصات علمية جديدة، ومواكبة المتغيرات العالمية والتطور التكنولوجي الذي نشهده يومياً، وهو ما يتطلب تكييف المناهج الدراسية بما يتناسب وثورة التكنولوجيا الرقمية، ويلبي متطلبات التجديد والتطور التربوي بما في ذلك الارتقاء بالممارسة التعليمية وتطويرها من شكلها التقليدي، القائم على الحفظ والتلقين وتقييم التعلّم بناء على معايير وأهداف موضوعة مسبقاً، إلى نهج تربوي حديث يركز على المتعلم باعتباره قطب الرحى في العملية التعليمية..

وأن المعلم هو حامل الرسالة ومقدمها، ودوره المحوري يجب أن يتمثل في التحفيز على الإبداع والابتكار، وحل المشكلات، والتفكير خارج الصندوق، وتنمية مهارات التواصل، واستخدام التقنيات التعليمية الحديثة، وإثارة خيال طلابه من خلال التعلم الفعال.

كما إن من أهم أدوار المعلم اختيار الأدوات المناسبة والفعالة في توصيل رسالته بناء على طبيعة الموقف التعليمي والبيئة الصفية، واستكشاف الموهوبين والعناية بهم، إلى جانب دوره في غرس القيم والأخلاق والثوابت، باعتبار أن الإبداع والابتكار هو التزام مجتمعي في المقام الأول..

وإلا أصبح نوعا من العبث. فمن غير الممكن أن يلقى الإبداع، مهما كانت درجته، قبولاً إذا كان بعيدا عن قيم أفراد المجتمع الذين يعطونه بدورهم الشرعية المجتمعية، ومن هنا أيضاً تتأتى أهمية تدريب المعلمين وتطوير كفاياتهم لمسايرة التقدم العلمي والتطور التكنولوجي لما سيكون له من مردود قوي باعتباره رافعة أساسية في تطوير التعليم.

ولا يمكن إغفال دور كليات التربية في مراجعة وتحديث برامج إعداد المعلمين باستمرار، واعتماد الوسائل الحديثة لمواكبة التطور وتحسين كفاءة الخريجين من خلال تسليحهم بمنظومة ثلاثية الأبعاد هي القيم، باعتبارها السياج الحامي لكافة المناشط الإبداعية، والمعارف، والمهارات، وهي التطبيق الفعلي لما يتم تحصيله..

بالإضافة إلى التعهد ببرامج التدريب والتطوير المهني التي يحتاجها الميدان التربوي، والسعي إلى الشراكة والتعاون مع الهيئات ذات الصلة. لقد أصبح التنافس بين الدول يدور حول الفكر والإبداع باعتباره القادر على إدارة كافة أشكال الصراعات الأخرى، وهو السلاح الذي لا يمكن القضاء عليه، لأن الأقمار الصناعية التي ترصد كافة التحركات على الأرض ليس لديها القدرة حتى الآن على الكشف عما يدور في عقل الإنسان.

لذا فإن دور المؤسسات التربوية هو التحول إلى التعليم الإبداعي الذي يركز على تعلم التفكير المستند إلى المعرفة، فالصراع بين الدول المتقدمة هو صراع بين عقول أبنائها من أجل الوصول إلى سبق علمي وتكنولوجي يضمن لها الريادة والقيادة. وأختم بما أكده صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بأن الفرق بين الأمم لا تصنعه الأموال إنما تصنعه الأفكار.