ها قد انقضي أكثر من أربعين عاماً على بداية عصر الانفتاح في مصر. وياله من عصر! شهده جيلان من المصريين، جيل شهد معظم عهد السادات ونصف عهد حسني مبارك، وجيل آخر شهد بقية عهد مبارك والخمس سنوات التالية لثورة 2011.
كنت قد قاربت الأربعين من عمري، عندما بدأ عصر الانفتاح، ومن ثم، وعيت ما طرأ من تغيرات علي الحياة الاجتماعية في مصر منذ ذلك الحين، وقد ظللت فترة طويلة أعتبر عصر الانفتاح عصراً واحداً، فإذا بي الآن ألاحظ فوارق مهمة بين الجيلين اللذين عاشا في أنماط سلوك وفي النظرة إلى الحياة، مما أجده جديراً بالتأمل وبمحاولة تفسيره.
كانت الأربعون عاماً كلها فترة من الاتساع المستمر في الفجوة بين مستويات الدخل والثروة، العليا والدنيا، بعد عشرين عاماً من محاولة ناجحة إلى حد كبير للتقريب بين الطبقات. المصريون الآن مختلفون بكثير مما كانوا في نهاية الستينيات، ولكن أسباب هذا في توزيع الدخل كانت مختلفة بين جيل وآخر من جيلي الانفتاح.
لقد شهد الجيلان ظاهرة التضخم، وظاهرة الهجرة، كما شهدا اتصالاً بالدول أكثر ثراءً (خاصة من دول الغرب)، بدرجة لم يعهدها المصريون من قبل. وقد ساهمت الظواهر الثلاث (التضخم والهجرة والاتصال بالغرب)، في خلق دخول وثروات كبيرة في أعلى السلم الاجتماعي، بينما لم ينتفع بها (بل وأضير بها أحياناً) القابعون في أسفل.
ولكن الجيل الثاني في الانفتاحيين، وإن كان قد شهد أيضاً الظواهر الثلاث، عاصر معدلات أقل من التضخم ومن الهجرة، كما أنه لم يشهد صدمة التغريب الأولى العنيفة التي أحدثتها السنوات الأولى من الانفتاح.
كانت معدلات نمو الناتج والدخل القومي في حياة هذا الجيل الثاني (1990- 2016)، أقل بدرجة ملحوظة مما كانت في حياة الجيل الأولى (1970- 1990)، بل كانت هذه المعدلات في الفترة الثانية (1990-2016)، أقل بنحو النصف مما كانت في سنوات الانفتاح الأولى (75-1985).
ولكن الطبقة العليا، كما هي العادة، لم تقدم وسيلة لتعويض هذا الانخفاض في معدل النمو، فاستمرت في تحقيق المزيد من الدخل والثروة، عن طريق التزاوج بين رجال الأعمال ورجال السلطة (أو ما يسمى أحياناً بالفساد).
وقد ثبت أن هذه الوسيلة لا تقل فاعلية في زيادة الثراء عن التضخم أو الهجرة أو الاتصال بالأجانب. أما القابعون في أسفل السلم، فبينما ضعف الأثر الإيجابي للهجرة، وكانوا على أي حال قليلي الحظ في الإفادة من الاتصال بالأجانب (في ما عدا ما يتعلق بالسياحة)، فقد استمرت معاناتهم، بل وساء مركزهم النسبي في المجتمع ككل.
صدر عن أنور السادات قول طريف في بداية عصر التضخم في السبعينيات، مؤداه أن «من لا يحقق الثراء في عهدي لن يستطيع تحقيقه أبداً»، وهو قول ثابت أنه قصير النظر، إذ لم يشهد السادات الدرجة من الثراء التي يمكن تحقيقها بتقوية الروابط مع رجال السلطة (وإن كان هو نفسه الذي أرسى هذا التقليد الجديد).
أدى هذا التغير في مصادر الثروة والدخول العالية، إلى نمو نوع جديد من الازدواجية الاجتماعية (أو الطبقية إذا شئت)، مختلف جداً عن ازدواجية ما قبل ثورة 1952 (التي تمثلت في الفوارق الصارخة بين حياة الريف والحضر).
ويختلف كذلك عن اختلاف ذلك عن ازدواجية العصر الشمولي (50-1970)، التي تمثلت في الفوارق بين المتمتعين بالسلطة من ضباط وكبار موظفي الحكومة والقطاع العام، ومن سار في ركابهم من مشتغلين بالسياسة من مثقفين وأساتذة الجامعات، وبين سائر طوائف الشعب.
بل ويختلف أيضاً عن ازدواجية العصر الأول من الانفتاح (70-1990)، التي تمثلت في الفوارق بين المستفيدين من التضخم وما اقترن به من هجرة وانفتاح على الأجانب، وبين المضارين أو غير المستفيدين من هذا كله.
اقترن هذا أيضاً، بنمو مذهل في ازدواجية التعليم. لقد عرفت مصر منذ وقت طويل، المدارس والجامعات الأجنبية، إلى جوار المدارس والجامعات الحكومية، ولكنها لم تعرف قط ما شهدناه في العشرين سنة الأخيرة، من زيادة سريعة في عدد المدارس التي تدرس بلغات أجنبية، والجامعات التي تتلقى الدعم من دول أجنبية.
ومن المذهل أيضاً، الزيادة في إقبال الأسر المصرية علي إرسال أولادها وبناتها إلى هذه المدارس والجامعات، هكذا نشأ جيل جديد من المصريين، حظي بمختلف أنواع الراحة والمتع التي لم يحظَ بها آباؤهم وأمهاتهم، من مسكن رائع، إلى الحصول على آخر منتجات الغرب الإلكترونية، إلى فرص السفر إلى الخارج، والاختلاط بالأجانب.
إن هذا الجيل الجديد من الأبناء والبنات، الذين استفادوا مما حققه آباؤهم من مزايا الانفتاح في سنواته الأولى، لم يكن مطلوباً منهم، لحسن حظهم، ارتكاب نفس خطايا الآباء، بل لقد رأيت بعيني، كيف كان سلوك كثير من هؤلاء الأولاد والبنات، مزيجاً رائعاً مما تعلموه عن طريق وسائل الاتصال الحديثة بالعالم، وما ورثوه من تقاليد عريقة.
ظهر بعض ذلك في سلوك آلاف من الشباب والشابات في الميادين في مختلف المدن المصرية.