المجتمعات التي لا تطرح الأسئلة على نفسها، تتسم بالركود والموات العقلي وفقدان الهمة والروح والعزم، وهي مجتمعات مفتونة بمديح الذات واستعادتها لتاريخ موهوم صاغته من أساطيرها النخبوية، وربما الشعبية وبات يشكل لها ملاذاً آمناً أقرب إلى الرحم التاريخي الذي تستكين إليه وتمجده وتقدم له قرابين الاستجداء لأنها تبحث عن أمان ما داخل هذا الرحم الأسطوري الذي تم تأسيسه من متخيلاتها.
انه سعي وراء الحصول على لذة الإجابات المسبقة والطمأنينة التي لا تجد لها ظلاً في واقعها المذري والملتبس المترع بالضياع والمسكون بالخوف من حاضرها ومستقبلها الغائم والمشوب بالغموض وعدم اليقين. مجتمعات تبدو مرعوبة من الأسئلة الجديدة، أسئلة الحاضر والمستقبل، ومن ثم تأوي إلى أسئلة السكينة القديمة وتتلوها ومعها إجاباتها الجاهزة، إجابات الإيمان بمدائح الذات لذاتها.
من هنا هي مجتمعات ونظم سياسية متكلسة، لا تستطيع الأحداث والتطورات أن تغير من جوهر إيمانها الخشبي بذاتها الذي يعتمد على مجموعة من الأساطير والحكايات والمرويات والأمثولات الشعبية التي أنتجت في مراحل تاريخية ويعاد تلاوتها وكأنها هي الحكمة والحقيقة والمثال الذي تأوي إليه في حاضرها ومستقبلها.
حكم وأمثولات خشبية لا تبين، وهي أقرب إلى لغة الكلام الساكت إذا شئنا استعارة التعبير الشعبي السوداني ذائع الصيت، حيث اللغة والصياغات التي لا تحمل سوى موتها الذاتي والتي لا تحمل سؤالاً أو معنى، ومن ثم تبدو فاقدة لمعناها ولا تقدم ولا تؤخر كثيراً.. من هنا تبدو جّدةُ السؤال أو السؤال على السؤال ذاته مفرداً أو جمعاً، دلالة حيوية عقلية واجتماعية وسياسية ودينية وثقافية.
من هنا تبدو حالة بعض الدول والمجتمعات والشرائح الاجتماعية والسياسية والثقافية في مأزق تاريخي، حيث لا أسئلة حقيقية تطرح ولا مساءلة للأسئلة التي تستعاد وكأنها أبدية ومتعدية للزمان والتاريخ وهو ما يبدو في الأسئلة القديمة التي تعيد إنتاج إجاباتها العتيقة التي فقدت معناها وسياقاتها وظروفها التاريخية، ومن ثم تبدو هي وإجاباتها خارج التاريخ.
الأسئلة هي وإجاباتها تخضع للمساءلة والجرح والتعديل والاستبعاد، والكشف عن زيفها أو أنها أسئلة حقيقة حول مشكلات وجودية أو إشكاليات أو ظواهر أو التباسات يطرحها الواقع الموضوعي أو العقل الناقد أو العقل الناقل.
إن ظاهرة الأسئلة الزائفة التي يطفح بها تاريخ بعض الدول في غالب مراحله تعود إلى عديد الأسباب وعلى رأسها ما يلي:-
1 - هيمنة ثقافة النقل والحفظ والتكرار والتلاوة على الآليات الذهنية للعقل النخبوي والشعبي، حيث يشكل النقل حالة أمنة، لا جدال حقيقياً حولها، ولا ارتباك أو توتر يربك النخب والجماهير – آحاد الناس -، لأن النخب تكلست باستثناءات محددة تاريخياً – من نهاية القرن التاسع عشر إلى المرحلة شبه الليبرالية- أسئلة النقل وإجاباته وإعادة إنتاجها بوصفها أسئلة حقيقية والإجابات بوصفها حقائق.
ومن ثم يؤدي ذلك إلى نمط من السيطرة الرمزية على ذهنية الآحاد من الجمهور، ومن ثم تيسر الثقافة النقلية عمليات السيطرة السياسية والأمنية من أجهزة الدولة على الناس، لأن ثقافة العقل النقدي والأسئلة تفتح الأبواب عن سعة لمساءلة السلطة الحاكمة حول شرعيتها، وقمعها وفسادها وجهلها في عديد الأحيان، ومن ثم عدم كفاءتها.
2 - أنماط التنشئة الاجتماعية البطريركية، والبطريركية المحدثة –التي يسيطر عليها التلقين والاتباع والانصياع والامتثال من الأسرة إلى المدرسة والجامعة والعمل، وهو ما ساعد على سيادة ثقافة سياسية تسلطية، ومن ثم عقل تسلطي أبوي أو شبه أبوي ينتج إنساناً مقهوراً ومقموعاً.
لا يملك الحق في الابتكار والإبداع ولا يملك سوى الامتثال أو اللجوء إلى أشكال للتنفيث عن الغضب والشعور بالقهر من خلال النكات أو الأمثولات الشعبية التي تبرر هذا الشعور، أو تنتقده على نحو موارب بما يؤدي إلى تنفيث هذه المشاعر الغاضبة ولا تحولها إلى أسئلة حقيقية تؤدي إلى نقد لذوي السلطة والنفوذ.
3 - الركود السياسي الناتج عن التمدد التاريخي للتسلطية في قلب الثقافة السياسية التي تعيد إنتاج نمط من الأسئلة والمقولات والإجابات، والتي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الحياة اللا سياسية التي تخلو من الصراعات السلمية حول الرؤى الأفكار والبرامج السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتنوعة.
والتي تفتح الباب من خلال هذا الصراع والتنافس السلمي، تبادل الأفكار والنقد الاجتماعي، وإتاحة الفرصة أمام الجمهور لأن المواطنة لا تزال مشروعا تاريخياً غير منجز وتام في الحياة الدستورية والقانونية التي لا تعكس سوى مصالح القوى الاجتماعية المسيطرة على الثروة والسلطة السياسية.
4 - ضعف مستويات البحث الاجتماعي في عديد المجالات حول المشاكل والظواهر الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في المجتمع، وغالبا ما يتم غالبها دونما ضوابط ومعايير علمية صارمة في ظل تراجع مستويات التقييم العلمي للبحوث، وضعف الكوادر الجامعية في ظل إنتاج علمي رديء للجامعات.
من ناحية أخرى ضعف الطلب السياسي والاجتماعي على المعرفة والبحث والثقافة، على نحو أدى إلى شيوع الترهل واللا مبالاة في مراكز البحث الرسمية.
هذه بعض حال مجتمعاتنا العربية التي انعدم فيها الإبداع والابتكار والتجديد والتطوير، وساد فيها التحجر والتقوقع والتمسك بتلابيب الماضي وأمجاد التاريخ المزعومة.