لعبت الهندسات القانونية الوضعية الحديثة أحد أبرز مداخل بناء الدولة القومية على عهدي محمد على وإسماعيل باشا، وذلك على عديد المستويات، ومنها:
1 - وضع القوانين المدنية والجنائية والتجارية.. إلخ، التي تنظم وتضبط العلاقات القانونية والاجتماعية، وفق أنساق مكتوبة ومعروفة مسبقاً، وبعيداً عن نظم المكانة والأعراف، إلى مراكز وقواعد قانونية موضوعية وإجرائية تنظم مصالح الأفراد، على نحو يؤدى إلى الاستقرار القانوني والاجتماعي.
2 - شكلت القوانين الحديثة –المستعارة من المرجعيات الأوروبية اللاتينية - أساس انتقال الاقتصاد المصري إلى نمط العلاقات الرأسمالية، ومن ثم تم دمج الاقتصاد في بنية الرأسمالية الدولية على عهد إسماعيل باشا.
3 - مأسسة أجهزة الدولة الإدارية، ومن ثم تشكيل البيروقراطية المصرية وخبراتها في إدارة الدولة.
4 - تكوين الجماعات القانونية الحديثة من الفقهاء وعلماء القانون، والقضاة، والمحامين، وبعض بيروقراطيي أجهزة الدولة.
لا شك في أن هذا الدور التاريخي والتأسيسي أسهم في تطوير الهندسة الاجتماعية الحديثة وعلاقاتها وشبكاتها وتفاعلاتها حول عمليات بناء المدن وأنسجتها المعمارية وفضاءاتها الحداثية- الكوزموبولتيانية- حول القاهرة، والإسكندرية وبور سعيد.. إلخ. وحول هذه المدن الحديثة نشأت السياسة والنخب الحداثية، لأن السياسة هي أبنة المدينة، وعلاقاتها وثقافتها وتنظيمها..
وليست ابنة الأرياف والترييف في نظم القيم والمفاهيم والروابط الاجتماعية الأولية، وتثاقل العلاقة مع الزمن والإنتاج.. إلخ. والأهم هو أن الجماعات القانونية كانت أحد محاور ومحركات الفكر الحداثي والتحديثي للدولة والمجتمع المصري، وذلك لعديد الأسباب على رأسها ما يلي:
1 - تكوينها القانوني الغربي- وفى نطاق العلوم الشرعية أيضاً- جعلها على اتصال وثيق بالفكر القانوني الدستوري والسياسي الليبرالي، ومن ثم بالأطر الفلسفية والثقافية للقيم الديمقراطية الحديثة، من خلال معرفة اللغات الفرنسية أساساً، والإنجليزية والإيطالية لدى بعضهم، على نحو أتاح لهم الاطلاع المستمر على أمهات المراجع الدستورية والقانونية الغربية اللاتينية..
والجديد الذي يصدر في الفروع المختلفة، على نحو رفد العقلين التشريعي والقضائي بالاتجاهات الجديدة في القانون المقارن، واطلاع القضاة على المبادئ القضائية التي استقر عليها القضاء الفرنسي، والإيطالي، لا سيما أن الأجيال المؤسسة كانت جزءاً من القضاء المختلط قبل اتفاقية مونترييه..
وكانت غالبيتهم يصدرون أحكامهم باللغة الفرنسية. بعض القضاة المؤسسين للجماعة القضائية الحديثة والأجيال اللاحقة كانوا يؤلفون الكتب مع بعض فقهاء القانون، بعضهم كانوا من ذوي المواهب الإبداعية كالقاضي الرسام الكبير محمود سعيد، وآخرين ترجم بعضهم بعض من الكتب الهامة، كفتحي زغلول باشا الذي ترجم سر تقدم الإنجليز الأنجلو ساكسون لديمولان على سبيل المثال، وبعضهم كان شاعراً أو يكتب الرواية أو يقتبس بعض الروايات الأجنبية، ويقدمها ممصرة، ليتم إخراجها سينمائياً.. إلخ.
2 - قامت الجماعة القانونية بتشكيل أحد أبرز روافد تشكيل النخبة السياسية والحزبية، وقادة بارزين في البرلمان وتشكيل الحكومات في المرحلة شبه الليبرالية وما بعدها.
3 - لعب القضاة دوراً مهماً في أقلمة وتوطين القوانين مع التقاليد والقيم الاجتماعية والثقافة المصرية.
حرصت الجماعة القضائية تاريخياً- ما قبل 1952، وحتى نظام يوليو بمراحله المختلفة- على استقلالها عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وذلك على الرغم من القيود القانونية التي وردت بقوانين السلطة القضائية المتعاقبة، وأشكال الضغوط المختلفة، ومذبحتي القضاة الشهيرتين، إلا أن إدراك القضاة دورهم واستقلاليتهم كان دائماً حاضراً.
من هنا لا بد من استصحاب هذه الخبرات الهامة في مواجهة عديد المشكلات الراهنة، وعلى رأسها الإصرار على عدم تسييس القضاء والأحكام الصادرة عنه تحت أي ضغط أو إغواء وذلك استمرارية وتأصيلاً للاستقلالية والإرث التاريخي العتيد. من ناحية أخرى الامتناع عن إبداء الآراء السياسية من بعض القضاة في وسائل الإعلام على نحو ما كان يتم في المراحل الانتقالية بعد 25 يناير 2011.
وضرورة تفعيل وتطوير معهد الدراسات القضائية مع المعاهد الدولية المقارنة في تأهيل أعضاء النيابة والقضاة الجدد لمواجهة فجوة تراجع مستويات التكوين في كليات الحقوق والشريعة والقانون، وإعداد ورش العمل لمستويات أخرى لمتابعة التطورات في التشريعات والمبادئ القضائية المقارنة، وفي نظم التحول الديمقراطي، وذلك لإعادة الجسور مع التقاليد المقارنة، التي ترفد العقل القضائي بالجديد.
إن نظرة تحليلية مقارنة بين مستويات الخطاب القضائي والأحكام وبنية الحيثيات والبلاغة والمجازات القانونية بين الأجيال المختلفة للقضاة تشير إلى تراجع واضح، بين المستويات الرفيعة المقام لبلاغة العقل القانوني للقضاة، وبين بنية التسبيبات الراهنة لدى بعضهم..
وهو ما يعود إلى المستوى التكويني والثقافي واللغوي لشيوخ القضاة وأجيالهم المتعاقبة، وبين المستويات الراهنة كونه جزءاً من التعليم السائد في كليات الحقوق وما اعتراه من تراجع عن ذي قبل.
ومن الصحيح أن يقال أيضاً إن ثمة من شيوخ القضاة على درجة عالية من التكوين والرصانة والحكمة، لأنهم يمثلون استمرارية للتقاليد العريقة، ولمتابعتهم للجديد في المعرفة والتغير الاجتماعي.